المبحث الثالث: بيان تحقيق الوقف للمقاصد الشرعية، وحكمة مشروعيته، وأهميته، وخصائصه.
الله، سبحانه وتعالى شرع لعباده ما فيه صلاحهم في معاشهم ومعادهم، فكتابه العزيز وسنة نبيه الكريم قد اشتملا على كل ما يحتاجه المسلم من مصالح عظيمة، ومقاصد سامية، وحكم كثيرة، ومن ذلك: الوقف، فقد اشتمل على مصالح عظيمة، وحكم كثيرة.
لقد جاء الوقف بالمصالح الثلاث: الضرورية، والحاجية، والتحسينية:
أما الضرورية: وهي ما يعود بحفظ الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والمال، والنسل، والعقل.
فحفظ الدين: وذلك بامتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بوقف المال، وبناء المساجد، وتأسيس المدارس الإسلامية، وطباعة المصاحف، والكتب الدينية، وغير ذلك مما سيأتي بيانه مما فيه حفظ الدين.
وأما حفظ النفس: فمثل: الوقف على مياه الشرب ووقف الأطعمة، والوقف على المساكين والفقراء، ووقف المستشفيات، وما يلحق بها، كما سيأتي مما فيه حفظ النفس.
وأما حفظ العقل: فمثل: وقف المدارس، والمعاهد الإسلامية، والكتب، وغير ذلك مما فيه تنمية للعقل.
وأما حفظ النسل: فمثل: الوقف على الأبناء والذرية، والوقف على [ ص: 99 ] المتزوجين، ووقف مؤسسات رعاية الأيتام، والوقف على النساء المرضعات، وغير ذلك مما فيه حفظ النفس.
وأما حفظ المال: فأصل الوقف فيه حفظ للمال; إذ فيه تحبيس لأصله والمنع من التصرف فيه بما يذهبه، ويبقى الوقف مدرا على الموقف عليهم لأزمنة عديدة.
وأما المصالح الحاجية: فهي التي يقصد منها التوسعة، ورفع الضيق المؤدي للحرج والمشقة بفوت المطلوب.
ومن الأمثلة على ذلك: الوقف على الرعاية الصحية، والخدمات التعليمية، وخدمات الطرق، وكل ما يحتاج إليه المجتمع.
وأما المصالح التحسينية: فهي كل ما يعود بمحاسن الأخلاق ومكارم العادات.
ومن أمثلة ذلك: الوقف على الحيوان، وبيوت الخلاء والحمامات، والجيران، والضيف والغرباء، كما أن الوقف على المستشفيات يحتوي على وسائل ترفيهية مباحة لتخفيف آلام المرضى، ووقف الحلي لغرض اللبس، وغير ذلك كما سيأتي.
ومن حكم الوقف:
1 - الاستجابة لأمر الله سبحانه، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
2 - استمرار الأجر للمسلم أثناء حياته وبعد موته; إذ يحبس عينا من أعيان ماله عن التصرف ويتصدق بمنفعتها، حيث إن الوقف يختص بميزة الدوام والاستمرارية من بين صدقات التطوع، يبين ذلك حديث [ ص: 100 ] رضي الله عنه، وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « أبي هريرة ». إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له
قال النووي: « قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت منقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف ».
فالعلماء، رحمهم الله فسروا الصدقة الجارية بالوقف.
3 - أنه سبب رئيس في قيام المساجد والمحافظة عليها، فإن أغلب المساجد على مدى التاريخ قامت على الأوقاف، بل إن كل ما يحتاجه المسجد من فرش وتنظيف ورزق القائمين عليه إنما كان مدعومة بهذه الأوقاف، يشهد لذلك ما نلمسه اليوم في كل بلد من بلدان المسلمين فيما يتعلق بالمساجد سواء تشييدها، أو غير ذلك فيما يتعلق بمصالحها.
4 - المحافظة على الناحية العلمية في المجتمع الإسلامي، فمما لا شك فيه أن دور العلم والمدارس الإسلامية في شتى الفنون كان معظمها قائما على الأوقاف الإسلامية، فكان لهذه الأوقاف اليد الطولى في تقدم الحضارة الإسلامية وانتشارها، فالمتتبع لتاريخ المدارس والحلقات العلمية في المساجد والجوامع يلاحظ أن بعضها تعددت الأوقاف عليها حتى بلغت المئات حتى وصل الأمر إلى أن يصرف مرتب شهري لجميع من يتلقى العلم في بعض المدارس، وهذا بالتالي ساعد على بقائها واستمرارها، وسيأتي مبحث مستقل عن الوقف على العلم، وأهله. [ ص: 101 ]
5 - مساعدة الضعفاء والمحتاجين، والأخذ بأيديهم من براثن الفقر والفاقة، فإن غالب الأوقاف يراعى فيها الضعفاء والمساكين، واستمرار هذا النفع بخلاف الصدقات الأخرى فإنها لا تدوم غالبا.
6 - ترابط المجتمع، وتضامنه، وشيوع روح التراحم والتواد، والتماسك، وإشعار المسلم بمسئولياته تجاه مجتمعه وربطه به وتشجيعه على إسداء يد بيضاء لهذا المجتمع يدوم ذكره فيه، فتسابق المسلمون على تحبيس الأعيان، وتسبيل ثمارها في صالح المجتمع كبناء المستشفيات، والملاجئ، ودور الأيتام، وحفر الآبار، وإقامة السقايات في المدن وعلى طرق المسافرين مما لا يخفى حتى كانت الأمة الإسلامية بسبب هذه الأوقاف أمة متقدمة، أبيد الفقر من مجتمعاتها، فكانت مضرب الأمثال للمجتمعات الأخرى.
7 - صلة الأرحام، وذلك بما يوقفه المسلم على قرابته مما له الأثر الكبير في ترابط الأسر، وإشاعة روح التعاون بين أفرادها، وانتشار المحبة ، والألفة بينهم.
8 - دعم الجهاد عند المسلمين والمحافظة على قوة دولة الإسلام، حيث سارع المسلمون في تحبيس أموالهم في سبيل الله ، سواء كانت أسلحة وأعتدة، أو ما يوقف على أولاد الشهداء، أو حبس أعيان تكون منفعتها في تموين المجاهدين تموينا عسكريا، أو اقتصاديا، وهذا لا شك أن فيه إرهابا لأعداء الله ونصرة لجند الله عز وجل، وبالتالي بقاء دولة الإسلام مهيبة الجانب، قوية الأركان:
أ - أمير الجيوش بمصر بدر الجمالي وقف ضياعا وقرى على الجيش، ويسمى بالحبس الجيوشي.
ب - زين الدين عبد الباسط خليل بن إبراهيم الدمشقي (ت458 ) [ ص: 102 ] ناظر الجيوش بالديار المصرية يقف وقوفا على الجيش والمدارس بالحرمين والقدس ومصر ودمشق.
ج - كانت بعض القرى وقفا على المقطعين، أي: المقاتلة غير المسجلين في الديوان.
ذكر ابن كثير في البداية أنه كان لعبد الرحيم بن القاضي الأشرف، والذي عمل كاتبا أيام الفاطميين وصلاح الدين بديوان الإنشاء أوقاف على تخليص الأسارى من يد النصارى.
د - وذكر ابن كثير أيضا في البداية أن بعض الأوقاف في الشام كانت موقوفة لفك الأسارى من المسلمين.
9 - إن في وقف الأعيان صيانة لها من عبث السفهاء، بحيث يتصرفون فيها، فلا تبقى لها عين ولا أثر، فهناك بيوت كثيرة أصبحت خرابة، وأصبح ذووها في حالة فقر، ولو كان فيما تركه آباؤهم من الثروة الطائلة ما يسمى وقفا أهليا لخفف عنهم بعض الشر وحال بينهم وبين ذلك الفقر والشقاء.
وذلك بما تمثله من رأس مال عيني ونقدي، وبما تتميز به من وجوب البقاء ودوام النفع، فلا تباع ولا تتلف بشهوة عارضة أو سوء تصرف، فضمنت انتقال هذه الأموال إلى أجيال تتوارث المنفعة، وهكذا تظل الأوقاف الإسلامية ثروة ورأس مال يخدم مصالح عامة في كل الأحيان، وسأبين شيئا من ذلك عند الكلام على الوقف الأهلي. فالأوقاف الإسلامية ساهمت في تحقيق التنمية الاقتصادية للمجتمع الإسلامي;
10 - أن في الوقف إيجاد فرص عمل كنظارة الوقف، ونحوها.
11 - زيادة دخل الموقوف عليهم. [ ص: 103 ]
12 - تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وعدم شيوع روح التذمر بسبب قلة المال.
وأيضا: ساهم الوقف في تحقيق الرعاية الاجتماعية على سبيل الأفراد والمجتمعات، بل شملت هذه الرعاية حتى الحيوان، والحالات النادرة، ومن صور ذلك:
أ - وقف في دمشق: على الحيوان الهرم; ليرعى في أرض الوقف حتى يموت.
ب - وقف في مصر: على الأواني التي يكسرها الخدم لتقديم بديل عنها إليهم; لكيلا يتعرضوا لملامة أو إيذاء.
ج - قال ابن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب ) في أحداث سنة ثمان وعشرين وستمئة: « وفيها المهذب الدخوار عبد الرحيم بن علي بن حامد الدمشقي شيخ الطب وواقف المدرسة التي بالصاغة العتيقة على الأطباء... ».
د - وقف على تقديم ثياب العرس وحلية إلى العروس التي تفتقدها ليلة الزفاف.
هـ - ذكر ابن العماد الحنبلي في ترجمة نور الدين محمود زنكي، سنة تسع وستين وخمسمئة « أنه بنى المكاتب للأيتام ووقف عليها الأوقاف ».
وذكر أيضا أن عماد الدين عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم بن الترجمان الحلبي كان ذا ثروة، وبنى مكتبا للأيتام، ووقف عليه وقفا.
وفي رحلة خلال وصفه لمدينة ابن جبير دمشق قال: « وللأيتام من [ ص: 104 ] الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير يأخذ منه المعلم لهم، وهذا أيضا من أغرب ما يحدث به من مفاخر هذه البلاد ».
و - قال ابن بطوطة في رحلته: « كان بأيدي القضاة في مصر والشام الأوقاف والصدقات لمساعدة أبناء السبيل ».
ز - ذكر صاحب النجوم الزاهرة في حوادث (343 هـ ) أنه ورد الخبر إلى السلطان باختلال مراكز البريد بطريق الشام، قال: فأخذ من كل أمير مقدم ألف أربعة أفراس... وكشف عن البلاد المرصدة للبريد، فوجد ثلاث بلاد منها: وقف الملك الصالح إسماعيل; وقف بعضها، وأخرج باقيها إقطاعات، فأخرج السلطان عن عيسى بن حسن الهجان بلدة تعمل في كل سنة عشرين ألف درهم وثلاثة آلاف إردب، وجعلها مرصدة لمراكز البريد.
ح - من الأوقاف التي وجدت سنة (838 هـ ) وقف تزويج الأيامى يعطى كل من تزوج من فقراء الحنابلة.
ط - ذكر ابن بطوطة في رحلته عند حديثه عن أوقاف دمشق أن من المصارف أوقافا على تعديل الطريق ورصفها قال: « لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك » ي - أوقفت رملة بنت عبد الله بن عبد الملك بن مروان دارا بمكة يسقى فيها الشراب للحجيج. [ ص: 105 ]
ك - أوقف عبد الله بن مشكور الحلبي ناظر الجيش والمتوفى سنة (338 هـ ) أوقافه على المساجين.
ل - كان لنور الدين محمود زنكي أوقاف دارة على جميع أبواب الخير وعلى الأرامل والمحاويج.
م - ومن ذلك الوقف على الملاجئ:
ومن أمثلة الوقف في هذا المجال: ما جاء في وقفية السيدة جليلة طوسون سنة (1923م ) ، من أن يصرف ريع فدانا بعد وفاتها على ملجأ لتربية اليتيمات يسمى « ملجأ الست جليلة » ويكون به من 15 إلى 20 طفلة يتيمة يتم اختيارهن وفقا لشروط نصت عليها، ومن أهمها « ألا يكون لهن عائل قادر على تربيتهن، واللطيمة التي فقدت والديها تكون لها الأفضلية على اليتيمة التي بقي لها أحدهما »، وأن يشمل منهاج التعليم في الملجأ على الكتابة والقراءة في المصحف الشريف، ومبادئ الحساب، وفنون تدبير المنزل ولا سيما الطبخ والخياطة والتطريز ».
ن - الوقف على رعاية المعوقين والمكفوفين:
أسهم الوقف في تحقيق التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم، ومن بين مظاهر هذا التكافل: الوقف على رعاية المعوقين والمقعدين والعميان، ومثلهم الشيوخ، فقد استغلت أموال الأوقاف في مساعدة هؤلاء المعوقين والمقعدين وتعويضهم عما فقدوه في هذه الحياة، فكانت الأوقاف توقف لإمدادهم بما يحتاجونه، ولإمداد المكفوفين بمن يقودهم ويخدمهم، وتعويضا [ ص: 106 ] عن فقدهم لنعمة البصر، وأنشئت لهم الدور لإيوائهم وإيواء المسنين والعجزة، ويعتبر أول من أجرى على المكفوفين والمرضى والمجذومين الأرزاق، وقد أبدى الوليد اهتماما خاصا بمرضى الجذام، ومنعهم من سؤال الناس، وأوقف عليهم ما يدر عليهم أرزاقا، كما أمر لكل مقعد خادما، ولكل ضرير قائدا، وكما خصصت أموال الأوقاف للعميان خصصت أيضا لضعيفي البصر، وكل ذلك كان من سعة المال وفيضه من خلال تشريعات الإسلام الذي حرص على المجتمع بأن يكون متكافلا، وأن تكون أفراده كالجسد الواحد. الوليد بن عبد الملك
كثير من الأغنياء يوقف مؤسسات خيرية اجتماعية كبيوت للفقراء، يسكنها من لا يجد بيتا، ومؤسسات للعميان والعجزة يعيشون فيها مكرمين معززين، تقدم لهم الخدمة بكل صدق كخدمة صادقة للإنسان كإنسان، وقد أقام أحمد بن طولون أول مستشفى في مصر عام 259 هـ، ومن أنظمته أن العليل إذا دخله تنزع ثيابه وتوضع عند الأمين، ثم يلبس الثياب الخاصة بالمرضى، ويفرش له فرش خاص به ويعالج حتى يبرأ، كما ابتنى السلطان قلاوون مستشفى عظيما أوقف عليه أموالا عظيمة، ورتب الأطباء، وأوجد العقاقير والكسى والأغذية.
ع - وفي مجال الصحة:
وقف المسلمون دورا لعلاج المرضى من المسلمين، كما أوقفوا الوقوف الواسعة على إنشاء المستشفيات، وساعدت أوقافهم على تطور الطب [ ص: 107 ] والصيدلة والعلوم الأخرى المرتبطة بالطب، فأنفق الوقف ليس على الإنسان ورعايته فقط، بل على الحيوانات والرفق بها والعناية بصحتها.
ومن الشواهد التاريخية على ذلك تلك الأوقاف التي رصدت للمارستان المنصوري الذي أنشئ سنة 982 هـ لعلاج الملك والمملوك، والكبير والصغير، والحر والعبد، وكان هذا المستشفى الذي وصفه (ابن بطوطة ) « بأنه يعجز الواصف عن محاسنه » كان مقسما إلى أربعة أقسام: - للحميات، والرمد، والجراحة، والنساء، وخصص لكل مريض فرش كامل، وعين له الأطباء والصيادلة والخدم، كما زود بمطبخ كبير، وكان المريض إذا ما برئ وخرج تلقى منحة وكسوة.
وقدرت الحالات التي يعالجها المستشفى في اليوم الواحد بعدة آلاف، وألحقت به مدرسة للطب يجلس فيها رئيس الأطباء لإلقاء درس طب ينتفع به الطلبة.
كما أن زوجة السلطان سليمان القانوني أوقفت مستشفى من أموالها الخاصة مع وقف العديد من المحلات التجارية للإنفاق عليه، والذي احتوى على مدرسة للطب.
وقد أوقف كثير من النساء في عائلة السلاطين العثمانيين الوقوف على إنشاء مستشفيات جديدة، أو للإنفاق على كليات الطب والخدمات الطبية لمستشفيات قائمة، وأصبح ذلك تقليدا متبعا عند هذه الأسرة الحاكمة، كما عملت به أمهات وزوجات الخلفاء العباسيين في إيقاف المستشفيات، فقد أوقفت والدة السلطان مراد الثالث، ووالدة السلطان عبد المجيد، والسلطانة حفيظة، والسلطانة توريانة، التي بقي مستشفاها وجهازه التعليمي يعمل حتى سنة 1923م عندما ألغى كمال أتاتورك الأوقاف الإسلامية، وحول هذا المستشفى العظيم إلى مخازن للتبغ. [ ص: 108 ]
ومن أمثلة ذلك:
أ - نور الدين محمود بن زنكي بنى بيمارستانا ومدرسة ودار حديث في دمشق وأوقف عليها الأوقاف.
ب - معز الدولة بن بويه يبني مارستانا ببغداد، ويوقف عليه الأوقاف بما قيمته خمسة آلاف دينار.
ج - أوقف نور الدين زنكي كثيرا من كتب الطب على بيمارستان دمشق.
د - أوقف فخر الدين المارديني الطبيب كتبه في الطب على أهل ماردين.
هـ - بنى الملك المنصور بيمارستانا في القاهرة، وقرر له وقفا مقداره في السنة أربعون ألف مثقال ذهبا.
ومن أشهر المستشفيات التي عرفت بدقة التنظيم وفائق العناية بالمرضى، والتي قامت على الوقف مارستان ابن طولون ويعرف بالمارستان العتيق، بناه أحمد بن طولون في عام 259 هـ ولما فرغ منه حبس عليه دار الديوان، ودوره في الإسكافة والقيسارية وسوق الرقيق، وعمل حمامين للمارستان أحدهما للرجال والآخر للنساء، حبسهما عليه، وشرط أنه إذا جيء بالعليل ينزع ثيابه ونفقته وتحفظ عند أمير المارستان، ثم يلبس ثيابا، ويفرش له، ويغدى عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ. [ ص: 109 ]
ولقد بلغ من عناية المسلمين بالمستشفيات لكي تقوم بأداء الخدمات نحو مرضاها بصورة متكاملة، وتساهم في تطور صحة المجتمع أنه كانت توقف الوقوف الكاملة لبناء أحياء طبية متكاملة الخدمات والمرافق، كما تنشأ في العصر الحديث ما يسمى بالمدن الطبية، وذكر - الرحالة الأندلسي - عند وروده ابن جبير بغداد أنه وجد حيا كاملا من أحياء بغداد يشبه المدينة الصغيرة، كان يسمى بسوق المارستان... كانت تؤمه المرضى وطلبة الطب والأطباء والصيادلة والذين يقومون على تقديم الخدمات; إذ كانت الخدمات جارية عليهم من الأموال الموقوفة في أطراف بغداد على هذا الحي الزاهر، ومن ذلك المستشفى الصلاحي الذي بناه في القدس سنة (538 هـ ) ، والمستشفى الناصري أو الصلاحي الذي بناه صلاح الدين في القاهرة سنة (563هـ ) ، والمستشفى النوري الذي بناه الملك صلاح الدين الأيوبي نور الدين زنكي في دمشق سنة (549هـ ) ، ومستشفى مراكش الذي بناه المنصور أبو يوسف المتوفى سنة (595 هـ ) .
كما نجد أنه قد خصصت أوقاف مقررة للإنفاق على تأليف الكتب في الصيدلة والطب.
فقد خصصت أوقاف لتأليف الكتب في الصيدلة والطب، واستطاع الأساتذة أن يكملوا كتبهم نتيجة لمثل هذا التعضيد العلمي من هذه الأموال الموقوفة. [ ص: 110 ]
ومن أمثلة ذلك « كتاب البيمارستانات » لزاهد العلماء الفارقي، عميد أحد المستشفيات في القرن الخامس الهجري، وكتاب « مقالة أمينة في الأدوية البيمارستانية » لابن التلميذ، وكتاب « صفات البيمارستان » للرازي، في العلوم الطبية، فهذا الأخير أحد أهم الإنجازات التي نتجت عن مثل هذا التعضيد من قبل الواقفين.
لقد استطاع هذا الدعم الوقفي أن يخرج للعالم علماء أعلاما كانوا المرجع في علم الطب وإليهم المنتهى فيه، كالرازي الذي ألف 233 كتابا في الطب والفلسفة ومن أهمها « الحاوي في الطب »، وابن سينا صاحب كتاب « القانون »، وعلي بن عيسى طبيب العيون الذي ألف « تذكرة الكحالين» الذي وصف فيه 30 مرضا من أمراض العيون، وابن جزلة صاحب كتاب « تقويم الأبدان » الذي وصف أمراض الحصبة والجدري وكيفية علاجهما، وابن زهر الذي وصف الحوادث السريرية والأمراض الباطنية.
13 - إغلاق أبواب الانحراف، حيث يؤوي هذا الوقف النساء اللاتي طلقن، ومن لا عمل له; إذ قد تلجئهم الظروف الاقتصادية إلى سلوك دروب الانحراف بسبب الفقر.
14 - تحقيق مبدأ التكافل بين الأمة المسلمة، وإيجاد التوازن في المجتمع، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الناس مختلفين في الصفات متباينين في الطاقة والقدرة، والوقف عامل من عوامل تنظيم الحياة بمنهج حميد يرفع من مكانة الفقير، ويقوي الضعيف، ويعين العاجز، ويحفظ حياة المعدم، من غير مضرة بالغني ولا ظلم يلحق بالقوي، وإنما يحفظ لكل حقه بغاية الحكمة والعدل [ ص: 111 ] فتحصل بذلك المودة، وتسود الأخوة، ويعم الاستقرار، وتتيسر سبل التعاون والتعايش بنفوس راضية مطمئنة.
15 - فإن الموقوف محبوس أبدا على ما قصد له، لا يجوز لأحد أن يتصرف به تصرفا يفقده صفة الديمومة والبقاء. في الوقف ضمان لبقاء المال ودوام الانتفاع به والاستفادة منه مدة طويلة،
فهناك أوقاف كتب لها الاستمرار مددا طويلة تبلغ القرون، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن العماد في شذرات الذهب في وفيات سنة 946 هـ فقد ذكر أن شهاب الدين أحمد بن بركات بن الكيال الدمشقي الشافعي كان ناظرا على أوقاف الصحابي الجليل رضي الله عنه. سعد بن عبادة،
16 - ويكون واقيا لهم عن الحاجة والعوز والفقر، فقد جبلت النفس البشرية على الحرص على المال، وفي الوقف وسيلة مباحة لتحقيق تلك الرغبة. بالوقف يمكن للمرء أن يؤمن مستقبله ومستقبل ذريته بإيجاد موارد ثابتة يضمنه،
17 - في الوقف وسيلة لحصول الأجر والثواب من الله تعالى وتكثيره، كما أن فيه وسيلة للتكفير عن الذنوب ومحوها، وفي الكل تحقيق للراحة والطمأنينة النفسية في الدنيا، والفوز بنتائج ذلك في الدار الآخرة.
18 - في الوقف تطويل لمدة الانتفاع من المال ومد نفعه إلى أجيال متتابعة، فقد تتهيأ السبل لجيل من الأجيال لجمع ثروات طائلة، ولكنها قد لا تتهيأ للأجيال التي تليه، فعن طريق الوقف يمكن إفادة تلك الأجيال اللاحقة بما لا يضر الأجيال السابقة.
قال رضي الله عنه: « لم نر خيرا للميت ولا للحي من هذه الحبس الموقوفة، أما الميت فيجري أجرها عليه، وأما الحي فتحبس عليه ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكها ». [ ص: 112 ] زيد بن ثابت،
19 - الوقف حماية من الداخل والخارج:
الأوقاف تمسك على المجتمع كيانه من الداخل فلا ينهار، وتمسك عليه كيانه من الخارج فلا تكتسحه غارات العدوان والدمار.
نقرأ عن مناطق الحدود الإسلامية، فنجد أسلافنا ممن عمر الإيمان قلوبهم بحب إخوانهم وأوطانهم، يرصدون الأوقاف لحراسة الحدود والدفاع عن ديار الإسلام.
يقول ابن حوقل عن (طرسوس ) على حدود المسلمين مع دولة الروم: ورأيت غير عاقل مميز، وسيد حصيف مبرز، يشار إليه بالدراسة والفهم، واليقظة والعلم، يذكر أن بها مئة ألف فارس، وكان ذلك عن قريب عهد من الأيام التي أدركتها وشاهدتها، وكان السبب في ذلك:
أنه ليس من مدينة عظيمة من جد سجستان، وكرمان، وفارس، وخوزستان، والجبال، وطبرستان، والجزيرة، وأذربيجان، والعراق، والحجاز، واليمن، والشام، ومصر، والمغرب، إلا بها لأهلها دار ينزلها غزاة تلك البلدة، ويرابطون بها إذا وردوها وتكثر لديهم الصلات، وترد عليهم الأموال والصدقات العظيمة الجسيمة إلى ما كان السلاطين يتكلفونه، وأرباب النعم يعانونه وينفذونه متطوعين متبرعين، ولم يكن في ناحية ذكرته رئيس ولا نفيس إلا وله عليه وقف من ضيعة ذات مزارع وغلات، أو مسقف من فنادق.
ولقد حاولت موجات الاستعمار الغربي في العصور الحديثة، بعد أن سيطر الغرب على البلاد الإسلامية، أن يضغطوا على المسلمين عن طريق السيطرة على الوقف ومعارفه، إذ إن الوقف أحد العوامل الرئيسية التي استند إليها المسلمون الذي وقف ضد رغبات الاستعمار السياسي والفكري [ ص: 113 ] والديني، ومن أجل العوامل على تماسك المسلمين في الكثير من البلدان التي وقعت تحت هذه السيطرة الغربية.