المبحث الثاني: محافظة العلماء على الوقف
لقد كثرت الأوقاف في مصر والشام كثرة واضحة، وصارت لها إدارة خاصة بمصر تشرف عليها وترعاها، أحدثها توبة بن نمر الحضرمي حينما ولي قضاء مصر سنة 115هـ في زمن وهو أول قاض هشام بن عبد الملك، بمصر وضع يده على الأحباس بمصر، وكانت من قبل في أيدي أهلها وأوصيائهم، فلما كان توبة قال: « ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين، فأرى أن أضع يدي عليها حفظا لها من الالتواء والتوارث، فلم يمت توبة حتى صار للأحباس ديوان عظيم ».
وهذا ليس في أول تنظيم للأوقاف مصر فحسب، بل في جميع الدول الإسلامية، وفي نفس عهد توبة أنشئ على نمط ديوانه في مصر ديوان للأوقاف في البصرة.
ومنذ ذلك التاريخ أنيطت الأوقاف بالقضاة، وأصبح ذلك أمرا متعارفا عليه أن يتولى القضاة النظر في الأوقاف بحفظ أصولها وتنميتها وقبض ريعها وصرفه في محله، فإن كان عليها ناظر حسب شرط الواقف راعاه القاضي، وإلا تولى هو النظر عليها، ويحكي الكندي رحمه الله في تاريخه أن أموال اليتامى والأوقاف ترد إلى بيت المال منذ زمن المنصور إلى أيام الرشيد ». [ ص: 174 ]
ويسجل التاريخ أيضا عناية بعض القضاة بالأوقاف، منها ما يرويه الكندي في تاريخه أن القاضي أبا الطاهر عبد الملك بن محمد الحزمي الأنصاري يتفقد الأحباس بنفسه ثلاثة أيام في كل شهر، يأمر بمرمتها وإصلاحها، وكنس ترابها، ومعه طائفة من عماله عليها، فإن رأى خللا في شيء منها ضرب المتولي لها عشر جلدات.
ومقابل هذه العناية الخاصة بالأوقاف ومراقبة نظارها وعقوبتهم أن حصل منهم تقصير; وجدت بعض الآراء التي لا ترى بأن المرمة شرط في الأحباس.
يقول الكندي رحمه الله: حدثنا محمد بن يوسف قال: أخبرني أبو سلمة، عن يحيي بن عثمان، عن ابن عفير قال: قال لي : « لا أرى أن تشترط المرمة في الأحباس، قال مالك سعيد : فذكرت هذا لأبي عبد الله عبد الرحمن بن عبد الله العمري قاضينا، فقال لي: ». لولا المرمة ما بقيت الأحباس لأهلها
قال سعيد: وكان العمري من أشد الناس لعمارة الأحباس، كان يقف عليها بنفسه، ويجلس مع البنائين أكثر نهاره.
والعمري هذا ولي قضاء مصر من قبل هارون الرشيد سنة خمس وثمانين ومئة.
وفي عهد نظم قاضيه المأمون الخليفة العباسي بمصر لهيعة بن عيسى الحضرمي الأحباس، وحكم في أحباس مصر كلها، يروي لنا الكندي في تاريخه: « كان من أحسن ما عمله لهيعة في ولايته أن قضى في أحباس مصر كلها، فلم يبق منها حبسا حتى حكم فيه إما ببينة وإما بإقرار أهل الحبس، وكان يقول في ذلك: كنت أحب ذلك من زمان وسألت الله أن يبلغني الحكم فيها، فلم أترك شيئا منها حتى حكمت فيه، وجددت الشهادة به ». [ ص: 175 ]
وأيضا يحفظ التاريخ لهارون بن عبد الله الذي ولي قضاء مصر من قبل يوم الأحد لأربع عشرة خلت من شهر رمضان سنة سبع عشرة ومئتين; أنه لم يبق شيئا من أمور القضاء حتى شاهده بنفسه وحضره مع أهل مصر، فمنها: أنه لم يتخلف عن حبس المأمون بمصر يتولاه القضاة حتى وقف على غلته ووجوهه.
وكذلك يحفظ لمحمد بن أبي الليث الخوارزمي الذي ولي قضاء مصر من قبل أبي إسحاق المعتصم سنة ست وعشرين ومئتين تدوينه للأحباس بخطه حفاظا عليها من الضياع والاغتيال، يقول محمد بن أبي الليث: « لقد هممت أن أضع يدي على كل حبس بمصر يتولاه أهله مما ليس له ثبت في ديوان القضاة احتياطا له ».
ويحكي لنا الكندي في تاريخه عن هذا القاضي الجليل أنه شاهد الأحباس بنفسه ودونها بخطه، وقضى في كثير منها.
ولم يستمر هذا الأمر بل في بداية النصف الأول من القرن الرابع كان يعين في بعض الأحيان متول للأحباس ونفقة الأيتام، بالإضافة إلى القاضي، ولعل أول من تولى النظر في الأحباس ونفقة الأيتام بعد فصلها عن القضاء: بكران بن الصباغ، وقدم معه أحمد بن عبد الله الكشي، وقد جعل له النظر في الأحكام في عهد الخليفة العباسي الراضي في ربيع الآخر سنة 321 هـ.
وكانت هذه الخطوة بداية إنشاء ديوان مستقل للأحباس منفصل عن ديوان القضاة، بالرغم من أن قاضي القضاة تولى أمر الأحباس في بداية عهد الفاطميين، إلا أنه أصبح لها ديوان مفرد في العصر الفاطمي يشرف على [ ص: 176 ] جباية ريع الأحباس سواء التي حبسها الأفراد، أو التي حبسها الخلفاء، ويشرف أيضا على وضعها في محلها ووجوه صرفها حسبما ورد في شروطها.
ورغم حداثة منصب رئيس ديوان الأوقاف; إلا أن متوليه ارتفع وتمتع بمركز كبير في الدولة حتى فاق منصب قاضي القضاة الفاطمي.
ويحدثنا التاريخ أن الأوقاف في العصر المملوكي في مصر ازدهرت وتنوعت وعمت كل شيء تقريبا، وعظم ريعها; مما جعلها مطمعا للحكام وخاصة في وقت الأزمات، وساعد الحكام على الاستيلاء عليها وحلها ضعفاء النفوس من العلماء والقضاة، حيث أفتوا الحكام بحل أوقاف السلاطين السابقين، وأحيانا كان الحكام ينفذون رغباتهم بدون الرجوع إلى الفقهاء والقضاة.
ولكن التاريخ يسجل بماء الذهب مواقف مشهورة لبعض الفقهاء الذين تصدوا للحكام، ومنعهم من التعدي على الأوقاف أمثال العز بن عبد السلام والنووي الذي وقف في وجه الظاهر بيبرس، وخاطبه بقوله: « إن ذلك غاية الجهل والعناد، وأنه لا يحل عند أحد من علماء المسلمين، ومن في يده شيء فهو ملكه لا يحل لأحد الاعتراض عليه، ولا يكلف إثباته، فاليد دليل الملك ظاهرا ».
وما زال النووي يعظه حتى كف الظاهر عن رغبته في امتلاك أراضي مصر. [ ص: 177 ]
وكذلك موقف العالم الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد مع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي أراد أن يحصل من الشيخ فتوى بأخذ الأموال من الرعية للنفقة على العساكر، فرفض الشيخ ذلك، وأفهمه أن ذلك لا يحل له.
وشهد القرن الثامن الهجري أنواعا متنوعة من ظلم الحكام وتعديهم على الأوقاف وغصبها حتى ما كان منها على الحرمين الشريفين، ويتم ذلك الغصب عن طريق بعض القضاة. [ ص: 178 ]