الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        المطلب السابع: الشرط السابع: اشتراط كون الموقوف عقارا

        وفيه مسائل:

        المسألة الأولى: وقف العقار:

        وفيها أمور:

        الأمر الأول: تعريف العقار:

        قال ابن منظور: « العقر والعقار: المنزل والضيعة، يقال: ما له دار [ ص: 540 ] ولا عقار، وخص بعضهم بالعقار النخل...قال: العقار - بالفتح - الضيعة والنخل والأرض ونحو ذلك ».

        وقال في مختار الصحاح : « العقار - بالفتح مخففة - الأرض والضياع والنخل، ويقال: في البيت عقار حسن، أي: متاع وأداة ».

        وقال في المصباح: « العقار مثل سلام كل ملك ثابت له أصل كالدار والنخل، قال بعضهم: وربما أطلق على المتاع، والجمع عقارات ».

        وقال في تحرير ألفاظ التنبيه: « العقار - بفتح العين - قال الأصمعي: هو المنزل والأرض والضياع، مأخوذ من عقر الدار - بضم العين وفتحها - وهو أصلها، قال صاحب المحكم: العقر والعقار - بفتح العين فيهما - : المنزل ».

        وقال في التعريفات: « العقار ما له أصل وقرار، مثل الأرض والدار ».

        وفي درر الحكام: ما لا يمكن نقله من محل إلى آخر كالدور والأراضي.

        وفي مغني المحتاج: « (ويصح وقف عقار) من أرض أو دار بالإجماع ».

        وأيضا في حاشية قليوبي: « قوله: (ويصح وقف عقار) بالمعنى المقابل [ ص: 541 ] للمنقول فيشمل الأرض والبناء والغرس، ويشمل المؤجر مدة وغير المؤجر، ويشمل وقف المسجد وغيره والموصى بمنفعته أو بعينه مدة، وإذا وقف المؤجر مسجدا، وانفسخت الإجارة في أثناء المدة رجعت المنفعة في بقيتها للواقف، فله إيجارها ».

        وفي الشرح الكبير: « (ولا يصح الوقف إلا بشروط أربعة :....وجملة ذلك أن الذي يصح وقفه ما جاز بيعه مع بقاء عينه، وكان أصلا يبقى بقاء متصلا كالعقار والحيوان والسلاح والأثاث وأشباه ذلك، قال أحمد في رواية الأثرم: « إنما الوقف في الدور والأرضين على ما وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيمن وقف خمس نخلات على مسجد: لا بأس به، وهذا قول الشافعي.

        ويدل لذلك ما يأتي:

        1 - الأدلة الدالة على مشروعية الوقف .

        2 - قول عمر رضي الله عنه: « كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك، فأما بنو النضير فكانت حسبة لنوائبه، وأما فدك فكانت حسبة لأبناء السبيل ».

        3 - قول عائشة رضي الله عنها: « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سبع حيطان له بالمدينة صدقة على بني عبد المطلب وبني هاشم ».

        4 - قول عمرو بن الحارث رضي الله عنه: « ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته [ ص: 542 ] درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة ».

        5 - أن عمر رضي الله عنه: أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه، فكيف تأمرني؟ قال : « إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ».

        الأمر الثاني: ما يدخل تبعا لوقف الأرض:

        1 - يدخل البناء والشجر في وقف العقار عند جمهور أهل العلم، خلافا لما ذهب إليه بعض الشافعية ، وبعض الحنابلة.

        واستثنى الحنفية الشجر اليابس، فإنه على شرف القطع، والشجر الذي يغرس للقطع.

        وحجة الجمهور: أنه هذه الأشياء ملحقة بالعقار عرفا وعند بعض أهل اللغة؛ إذ هذه مرادة للدوام.

        وحجة القول الثاني: الاقتصار على لفظ الواقف.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - هو قول جمهور أهل العلم ؛ لقوة دليلهم.

        2 - الزرع: لدخول الزرع قولان عند أهل العلم:

        القول الأول: إذا كان الزرع لا يحصد إلا مرة واحدة فلا يدخل، وإن [ ص: 543 ] كان يحصد مرارا أو يجز مرارا، فالجزة الظاهرة، واللقطة الظاهرة للواقف، وما عداه يدخل في الوقف.

        وبه قال الشافعية، والحنابلة .

        وحجتهم: أن الزرع لا يراد للداوم، إلا إذا كان الزرع يلقط مرارا أو يجز مرارا، فالأصول تدخل في الوقف إلحاقا لها في الشجر.

        القول الثاني: أن الزرع لا يدخل في الوقف.

        وبه قال الحنفية، والمالكية.

        وحجتهم: الاقتصار على لفظ الواقف.

        والأقرب: القول الأول ؛ لقوة دليله.

        3 - الثمر: إن كانت مؤبرة فلا تدخل في الوقف، وإلا دخلت، وهذا قول جمهور أهل العلم.

        لما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه رضي الله عنهما، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدا وله مال، فماله للذي باعه، إلا أن يشترط المبتاع ».

        والوقف ملحق بالبيع.

        وعند الحنفية : لا تدخل الثمرة؛ اقتصار على لفظ الواقف.

        والأقرب: القول الأول؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما. [ ص: 544 ]

        4 - ما وضع من أثاث ونحوه، فلا يدخل في الوقف.

        الأمر الثالث: وقف الأشجار.

        اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

        القول الأول: صحة وقف النخيل والأشجار المثمرة، وإن لم تكن الأرض التي غرست فيها هذه الأشجار موقوفة.

        وهو قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

        جاء في حاشية ابن عابدين : « بخلاف وقف البناء والشجر، فإنه مما شاع وذاع في عامة البقاع ».

        وجاء في الدر المختار: « سئل قارئ الهداية عن وقف البناء والغراس بلا أرض؟ فأجاب: الفتوى على صحة ذلك ».

        وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: « والبساتين إن حبست على من لا تسلم إليه، بل تقسم غلتها عليه تساقى أو يستأجر عليها من غلتها، وإن كانت على معينين هم يلونها بالنفقة عليها، والإبل والبقر والغنم كالثمار ». [ ص: 545 ]

        وجاء في المهذب: « ويملك الموقوف عليه غلة الوقف، فإن كان الموقوف شجرة ملك ثمرتها... » وجاء في المغني: « وجملة ذلك أن الذي يجوز وقفه ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه، وكان أصلا يبقى بقاء متصلا كالعقار...وقال - يعني: الإمام أحمد - فيمن وقف خمس نخلات على مسجد: لا بأس به.

        القول الثاني: عدم صحة وقف الأشجار دون أصلها إذا كانت الأرض ملكا، أو وقفا على جهة أخرى.

        وهو قول عند الحنفية.

        القول الثالث: لا يصح وقف الأشجار دون أصلها إذا كانت الأرض مستأجرة أو مستعارة، أو موصى بنفعها مدة.

        وهو قول عند الشافعية.

        الأدلة:

        دليل القول الأول:

        1 - عموم أدلة الوقف.

        2 - أن وقف النخيل والأشجار المثمرة يتحقق منها مقصود الوقف وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فالأشجار المثمرة تدخل في العقار؛ إذ إن لها ثمرة يمكن أن تباع وتصرف على الوقف، أو توزع الثمرة على الفقراء والمحتاجين وغيرهم من الموقوف عليهم دون بيع. [ ص: 546 ]

        3 - أن من أهل اللغة من جعل الأشجار من قبيل العقار، والعقار صح وقفه بالإجماع.

        قال في المصباح المنير: « و " العقار » مثل سلام: كل ملك ثابت له أصل كالدار والنخل، قال بعضهم : وربما أطلق على المتاع والجمع « عقارات ».

        وفي المطلع: « العقار بالفتح الأرض والضياع والنخل، ومنه قولهم: ما له دار ولا عقار، وقال شيخنا رحمه الله في مثلثه: العقار متاع البيت، وخيار كل شيء، والمال الثابت كالأرض والشجر، والمراد هنا ما قاله الجوهري ».

        4 - أنه يصح وقف الأشجار مع الأرض التي تقوم عليها، فصح وقفها وحدها كالعقار.

        دليل القول الثاني: أن الأشجار لا تتأبد، والوقف يراد للتأبيد فلا يصح وقفها.

        ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة وجوه:

        الأول: أنه دليل عقلي في مقابل نص، وهو ما سبق في أدلة القول الأول من الأدلة على صحة وقف الأشجار.

        الثاني: أنه لا يسلم أن التأبيد شرط لصحة الوقف فيصح وقف ما لا تبقى عينه إلا باستهلاكه، ووقف المنافع وهي تفنى باستهلاكها كما قررناه عند بحث هذه المسائل.

        الثالث: أن التأبيد مفهوم نسبي، وهو في كل مال بحسبه، والمراد إمكان الانتفاع مدة بقائه لا إلى الأبد، وللأموال الموقوفة أيا كان نوعها أعمار يتلاشى ريعها وتتراجع قيمتها حتى لا تساوي شيئا، وإن بقيت أعيانها. [ ص: 547 ]

        دليل القول الثالث: أن الشجر إذا كان في أرض مملوكة للغير كالمستأجرة، فإنه لا يدوم الانتفاع بها، فكان وقفا لما لا ينتفع به فلا يصح.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: عدم التسليم؛ فالأشجار بعد قلعها ينتفع بها؛ إذ يمكن غرسها في مكان آخر.

        الوجه الثاني: أن الشجر بعد انتهاء المدة مال محترم إن شاء المالك أبقاه بأجرة مثله، وإن شاء قلعه وغرم أرشه، وإذا قلع يمكن أن يغرس في مكان آخر أو يباع ويصرف ثمنه مع الأرش في ثمن مثله.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - قول جمهور أهل العلم؛ إذ الوقف فعل قربة فيكثر منه، والأصل الصحة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية