المطلب العاشر: الشرط العاشر اشتراط كون الموقوف غير كتب
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وقف المصحف:
وقف المصحف على غير المسلم:
باتفاق الأئمة الأربعة على عدم جواز وقف المصحف على غير المسلم. [ ص: 593 ]
فالحنفية قالوا بعدم جواز إبقاء المصحف في يد غير المسلم ولو كان أخذه بعقد البيع والمالكية قالوا بعدم جواز فكذلك وقفه عليه. بيع المصحف على غير المسلم،
وبه قال الشافعية، وهو قول الحنابلة، حيث قالوا بعدم بيعه له، فكذلك وقفه عليه.
(173) 1 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم عن نافع، عبد الله بن عمر: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ».
وفي رواية : « مخافة أن يناله العدو ».
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن وعلل ذلك بمخافة وقوعه في أيديهم، وفي وقفه على غير المسلم إيقاع له في يده، فلا يجوز. المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار،
2 - أن في ملكية الكافر للمصحف إهانة له وابتذالا، فلا يجوز إيقاعها بالوقف، بل الواجب إخراجه عن ملكه إذا وقع فيه. [ ص: 594 ]
وأما وقف المصحف على المسلم:
فاختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجوز وقفه مطلقا.
وبه قال المالكية، حيث قالوا بجواز وقف الكتب عموما، فيدخل في ذلك المصحف، وبه قال الشافعية، والحنابلة، قال في المبدع بعد كلامه على وقف المنقول: « ...ويستثنى منه وقف المصحف، فإنه يصح رواية واحدة » قال النووي: « يجوز وقف العقار والمنقول كالعبيد والثياب والدواب والسلاح والمصاحف والكتب، سواء المقسوم والمشاع ».
القول الثاني: يجوز وقفه إذا تعارف الناس عليه، وتعاملوا به.
وبه قال من محمد بن الحسن الحنفية، وعليه العمل والفتوى عندهم.
جاء في الفتاوى الهندية: « ثم وقف المصحف إذا وقفه على أهل المسجد يقرؤونه إن يحصون يجوز، وإن وقف على المسجد يجوز أن يقرأ في [ ص: 595 ] هذا المسجد، وذكر في بعض المواضع لا يكون مقصورا على هذا المسجد كذا في الوجيز للكردري ».
القول الثالث: لا يجوز وقفه مطلقا.
وبهذا قال وتلميذه أبو حنيفة، أبو يوسف.
قال الزيلعي: « (ومنقول فيه تعامل) كالكراع، والخف، والسلاح، والفأس، والمرو، والقدر، والقدوم، والمنشار، والجنازة، وثيابها، والمصاحف، وغير ذلك مما تعورف وقفها، وعند أبي يوسف: لا يجوز إلا في الكراع والسلاح، والقياس أن لا يجوز في المنقول أصلا، إلا أن ترك ذلك بالنص ». أبا يوسف
الأدلة:
أدلة القول الأول: (مشروعية وقف المصحف) :
1 - ما تقدم من أدلة صحة وقف المنقول، كحديث رضي الله عنه، ووقف أبي هريرة رضي الله عنه لأدرعه وأعتده، وحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه فيما في احتباس الفرس في سبيل الله من الأجر، وغيرهما. أبي هريرة
2 - ما رواه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبو هريرة [ ص: 596 ] « إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو مسجدا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته ».
فقالوا : إن ما عدا السلاح والحيوان ومنه المصحف مقيس عليه ؛ لأن فيه نفعا مقصودا، فيجوز وقفه.
3 - أنه ليس في وقف المصحف اعتياض عنه، فيجوز.
أدلة القول الثاني: (الجواز إذا تعامل به الناس) :
ظاهر قوله الاستدلال بما سبق استدلاله به في مسألة وقف المنقول إذا كان مما ينتفع به مع بقاء عينه، وقد تقدم مع مناقشته.
أدلة القول الثالث: (عدم الجواز) :
استدل لهذا الرأي بما استدل به في مسألة وقف المنقول إذا كان مما يتعامل به الناس، وقد تقدم مع مناقشته.
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بجواز وقف المصحف؛ لقوة ما استدلوا به، ويحصل بوقفه خير كثير، ونفع عظيم لسائر الناس من تيسير تلاوته وحفظه الذي تواترت الأدلة من الكتاب والسنة في الحث عليهما.