المطلب السابع: الشرط السابع: أن لا يقف على نفسه
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: حكم الوقف على النفس:
صورة المسألة: أن يقول: هذا البيت وقف علي، فهل يصح هذا؟
للعلماء في ذلك قولان: القول الأول: صحة الوقف على النفس.
وهو المعتمد عند الحنفية، ووجه عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، وإليه ذهب الظاهرية، واختاره شيخ الإسلام، وابن القيم.
القول الثاني: عدم صحة الوقف على النفس.
وبه قال من محمد بن الحسن الحنفية، وهو قول جمهور أهل العلم: [ ص: 405 ] المالكية، والشافعية، والحنابلة.
وفي المغني: « سئل عن ذلك؟ فقال: لا أعرف الوقف إلا ما أخرجه الله، وفي سبيل الله، فإذا وقفه عليه حتى يموت فلا أعرفه ». الإمام أحمد
الأدلة:
أدلة القول الأول:
1 - عمومات أدلة مشروعية الوقف، فيدخل فيها الوقف على النفس.
2 - عمومات أدلة صحة الشرط في الوقف، ويدخل في ذلك شرط كون الوقف على النفس.
3 - عن رضي الله عنه جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: « ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ».
(120 ) 4 - ما رواه من طريق أبو داود عن محمد بن عجلان، عن المقبري، رضي الله عنه، قال: أبي هريرة [ ص: 406 ] وجه الاستدلال: أن الوقف نوع من الصدقة، والصدقة مأمور بها، فإذا جازت الصدقة على النفس فكذلك الوقف عليها. أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار، فقال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجتك أو قال زوجك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر»
5 - حديث وقف رضي الله عنه عثمان لبئر رومة.
وجه الاستدلال: أن رضي الله عنه وقف عثمان بئر رومة، وجعل لنفسه حق الانتفاع منها.
ونوقش: بأن الوقف هنا ليس وقفا على النفس استقلالا، وإنما هو [ ص: 407 ] دخول الواقف كغيره في الانتفاع من الوقف العام، كصلاته في المسجد الذي أوقفه.
(121 ) 6 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم عن الأعرج، رضي الله عنه أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: « اركبها »، قال: يا رسول الله إنها بدنة، قال: « اركبها ويلك » في الثالثة، أو في الثانية.
وجه الاستدلال: أن البدنة المهداة قد خرجت عن ملك صاحبها، ومع ذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبها الانتفاع بها، فكذلك الوقف على النفس.
(122 ) 7 - وقال « وأوقف البخاري: دارا فكان إذا قدمها نزلها ». أنس
(123 ) 8 - وقال « وجعل البخاري: نصيبه من دار ابن عمر سكنى لذي الحاجة من عمر آل عبد الله ».
9 - أنه لو وقف على جهة عامة جاز أن يكون كواحد من تلك الجهة، فيصلي في المسجد الذي وقفه، ويدفن في المقبرة التي سبلها، ونحو ذلك، [ ص: 408 ] بل الجواز هنا أولى من حيث إنه موقوف عليه بالتعيين، وهناك دخل في الوقف; لشموله الاسم.
ويأتي أنه إذا وقف على الفقراء أو العلماء دخل معهم إذا اتصف بصفتهم.
10 - قال ابن القيم: « ...فإن الواقف أخرج رقبة الوقف لله، وجعل نفسه أحد المستحقين للمنفعة مدة حياته، فإن لم يكن أولى من البطون المرتبة فلا يكون دون بعضهم، وهذا محض القياس، وإن قلنا الوقف ينتقل إلى الموقوف عليهم بطنا بعد بطن يتلقونه من الواقف، فالطبقة أحد الموقوف عليهم، ومعلوم أن أحد الشريكين إذا اشترى لنفسه، أو باع من الشركة جاز على المختار الاختلاف حكم الملكين، فلأن يجوز أن ينقل ملكه المختص إلى طبقات موقوف عليها هو أحدها أولى ».
11 - أن المقصود من الوقف القربة، وهي حاصلة بالوقف على النفس.
أدلة القول الثاني: (عدم صحة ) : الوقف على النفس
استدل لهذا الرأي بما يلي:
1 - عن رضي الله عنه في قصة وقف ابن عمر رضي الله عنه، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: « عمر ». حبس الأصل وسبل الثمرة
وجه الاستدلال: أن تسبيل الثمرة تمليكها للغير، ولا يتصور أن يملك [ ص: 409 ] الشخص من نفسه لنفسه، وحقيقة الوقف على النفس تمليك للنفس على النفس.
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: عدم التسليم بأن تمليك من النفس للنفس، بل هو إخراج الملك إلى الله تعالى على وجه القربة، فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه، فقد جعل ما صار مملوكا لله تعالي لنفسه لا أن يجعل ملك نفسه لنفسه. الوقف على النفس
الوجه الثاني: أن امتناع تمليك الشخص نفسه لعدم الفائدة، فإذا وجدت الفائدة كما هنا فلا دليل على المنع.
2 - أن التقرب بإزالة الملك ، واشتراط كامل الانتفاع أو بعضه لنفسه يمنع زوال ملكه فيبطل الوقف.
ونوقش: بعدم التسليم; فالوقف خرج من ملك الواقف إلى ملك الله تعالى.
3 - أن في الوقف على النفس منع الواقف نفسه من التصرف في رقبة الملك، والوقف لم يوضع لمنع التصرف فقط.
ونوقش: بعدم التسليم; فالوقف على النفس فيه حبس الأصل عن التصرف، وتسبيل المنفعة للواقف، ثم لمن بعده، وهذه حقيقة الوقف. [ ص: 410 ]
4 - أنه لا يصح الوقف على النفس قياسا على العتق، فلو استثنى المعتق بعض أحكام الرق لنفسه لم يجز ذلك، فكذا الوقف.
ونوقش: بعدم التسليم، فيصح أن يعتق السيد ويستثني منافع العبد مدة حياته، ونحو ذلك.
5 - أن الوقف تمليك إما للرقبة أو المنفعة، ولا يجوز له أن يملك نفسه من نفسه، كما لا يجوز أن يبيع ماله من نفسه.
ونوقش: بالفرق بين البيع والوقف; إذ البيع من النفس لا تظهر فيه مصلحة، بخلاف الوقف.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - صحة الوقف على النفس; لقوة دليله، ويؤيده أيضا: أن كثيرا من المانعين جوزوا أن يستثني الواقف كل الغلة أو بعضها مدة حياته كما سيأتي، وهذا نوع من الوقف على النفس.
وأيضا ما فيه من مصلحة الواقف; إذ يحتاج إليه الشخص لمنع نفسه من التصرف الناقل للملك مع حاجته إلى الإفادة منه مدة حياته.