المسألة الثانية: اعتبار شرط القبض والحيازة:
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في اعتبارها شرطا لصحة الوقف، أو لزومه، على ثلاثة أقوال: [ ص: 499 ] حيازة الوقف وقبضه
القول الأول: أن الحيازة والقبض ليست شرطا لا لصحة الوقف، ولا للزومه.
وبه قال من أبو يوسف الحنفية، وهو قول الشافعية، ومذهب الحنابلة، وهو قول الظاهرية.
القول الثاني: أن الحيازة والقبض شرط في صحة الوقف.
وهو قول المالكية في الجملة، ورواية عن الإمام أحمد.
القول الثالث: أن الحيازة والقبض شرط للزوم الوقف.
وهو قول وبه قال بعض محمد بن الحسن، المالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل لهذا الرأي بما يلي:
1 - حديث رضي الله عنه قال: ابن عمر رضي الله عنه بخيبر أرضا، فأتى النبي [ ص: 500 ] صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه فكيف تأمرني به؟ قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها"، عمر فتصدق أصاب أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث في الفقراء والقربى، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه. عمر:
وجه الدلالة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: يشمل تحبيس العين والصدقة بها وهي تحت يد مالكها، وأيضا فإن « إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها » رضي الله عنه لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اشتراط إخراج العين المحبسة عن يده؛ مما يدل على عدم اشتراطه. عمر
2 - ما ورد عن رضي الله عنه أن وقفه كان بيده إلى أن مات. عمر
(142) فقد روى عن الخصاف عن الواقدي، أبي بكر بن عبد الله، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر بن ربيعة قال: « شهدت كتاب رضي الله عنه حين وقف وقفه أنه في يده، فإذا توفي فهو إلى عمر فلم يزل حفصة بنت عمر، يلي وقفه إلى أن توفي، فلقد رأيته هو بنفسه يقسم ثمرة ثمغ في السنة التي توفي فيها، ثم صار إلى عمر ». حفصة
(143) 3 - وأخرج عن أهل العلم من ولد الشافعي فاطمة وعلي رضي الله عنه، ومواليهم « أن وعمر رضي الله عنه المتصدق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلي صدقته حتى قبضه الله تبارك وتعالى، ولم يزل عمر بن الخطاب يلي [ ص: 501 ] صدقته بينبع حتى لقي الله عز وجل، ولم تزل علي بن أبي طالب رضي الله عنها تلي صدقتها حتى لقيت الله تبارك وتعالى ». فاطمة
(144) 4 - ونقل عن البيهقي في القديم: « أن الشافعي ولي صدقته حتى قبضه الله، وولي الزبير صدقته حتى قبضه الله، وولي عمرو بن العاص صدقته حتى قبضه الله ». المسور بن مخرمة
قال « ولقد حفظنا الصدقات عن عدد كثير من المهاجرين والأنصار، لقد حكى لي عدد كثير من أولادهم وأهليهم أنهم لم يزالوا يلون صدقاتهم حتى ماتوا، ينقل ذلك العامة منهم عن العامة لا يختلفون فيه، وأن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لكما وصفت لم يزل يتصدق بها المسلمون من السلف يلونها حتى ماتوا، وأن نقل الحديث فيها كالتكلف ». الشافعي:
(145) 5 - ما رواه عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، جابر الجعفي، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: « كان علي بن أبي طالب يجيزان الصدقة وإن لم تقبض ». وابن مسعود
والوقف من الصدقة.
(146) 6 - ما رواه من طريق ابن حزم نا الحجاج بن المنهال: قال: سمعت المعتمر بن سليمان التيمي، عيسى بن المسيب أنه سمع [ ص: 502 ] القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يحدث عن أبيه، عن جده قال: « الصدقة جائزة قبضت، أو لم تقبض ». عبد الله بن مسعود
وجه الدلالة: كما سبق.
(147) - ما رواه عن عبد الرزاق، إبراهيم بن عمر، عن عبد الكريم أبي أمية قال: حدثني يحيى بن جعدة أن قال: « اللاعب والجاد في الصدقة سواء ». عمر بن الخطاب
(148) 8 - ما رواه عن الإمام مالك، عن داود بن الحصين أبي غطفان بن طريف المري عن رضي الله عنه قال: « من وهب هبة لصلة الرحم، أو على وجه الصدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها » [صحيح] [ ص: 503 ] وهذا يشمل صدقة الوقف قبضت أو لم تقبض. عمر
9 - قياس صحة الوقف ولزومه من غير قبض على صحة العتق ولزومه من غير قبض، بجامع إسقاط الملك على وجه القربة.
أدلة الرأي الثاني: (اشتراط الحيازة والقبض) :
استدل لهذا الرأي بما يلي:
1 - حديث رضي الله عنه، وفيه أن عمر رضي الله عنه دفعه إلى عمر رضي الله عنها. حفصة
(149) 2 - ما رواه من طريق أبو داود ابن وهب، أخبرني عن الليث، يحيى بن سعيد، عن صدقة قال: « نسخها لي عمر بن الخطاب عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتب في ثمغ، فقص من خبره نحو حديث عبد الله عمر قال: « غير متأثل مالا، فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم ». قال: وساق القصة قال: وإن شاء ولي ثمغ أشتري من ثمره رقيقا لعمله، وكتب نافع، وشهد معيقيب، بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله عبد الله بن الأرقم: أمير المؤمنين إن حدث به حدث أن ثمغا، عمر وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمئة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمئة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي تليه ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها أن لا يباع [ ص: 504 ] ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقا منه ». [ ص: 505 ] حفصة
ونوقش هذا الاستدلال: أنه مردود بما ذكر ابن حجر فقال: وأما ما زعمه ابن التين من أن به دفع الوقف عمر فمردود. لحفصة
ووجه رده: أنه جاء في كتاب رضي الله عنه: « هذا ما كتب عبد الله عمر أمير المؤمنين في ثمغ، أنه إلى عمر ما عاشت تنفق ثمره حيث أراها الله، فإن توفيت فإلى ذوي الرأي من أهلها...والمئة وسق الذي أطعمني النبي صلى الله عليه وسلم فإنها مع ثمغ على سننه الذي أمرت به، وإن شاء ولي ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقا يعملون فيه فعل ». حفصة
(150) وروى الدارقطني، كلاهما من طريق والبيهقي أنبأنا يزيد بن هارون، عبد الله بن عون، عن عن نافع، قال: أصاب ابن عمر أرضا عمر بخيبر... فذكره وفيه: ثم أوصى به إلى رضي الله عنه، ثم إلى الأكابر من حفصة بنت عمر آل عمر. [ ص: 506 ]
وهذا يدل على أنه أوصى رضي الله عنها. لحفصة
أدلة القول الثالث: (أن الحيازة شرط للزوم) :
استدل لهذا القول بما يلي:
1 - حديث رضي الله عنه، وأنه دفع الوقف على ابنته عمر بن الخطاب رضي الله عنها. حفصة
قالوا: وإنما فعل ذلك ليتم الوقف.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذا الدليل سبقت مناقشته في دفع استدلال أصحاب القول الثاني، وأنه لا يصح الاستدلال به، وحتى لو فرض صحته فإنه يصادم ما ثبت أن ولي صدقته حتى مات، فيتعين صرفه إلى أن المقصود بذلك أن عمر رضي الله عنه أوصى بدفعه إلى عمر بعد وفاته، وأنها إنما حازته بعد وفاة أبيها. حفصة
وعلى فرض ثبوت حيازة له قبل وفاة أبيها، فإنه لا يعني ذلك أنه شرط لتمام الوقف، بل هناك احتمال أقوى منه وهو ما ذكره أبو يوسف من أنه فعل ذلك لكثرة اشتغاله وخاف التقصير منه في أوانه، أو ليكون في يدها بعد موته، أما أن يكون فعله لإتمام الوقف فلا. حفصة
وأن بعض العلماء يرى أنه أول وقف في الإسلام.
وأما كتاب رضي الله عنه لوقفه فقد كتبه في خلافته؛ ذلك أن عمر كان [ ص: 507 ] كاتبه في زمن الخلافة، وقد وصف معيقيبا معيقيب في هذا الكتاب بأنه أمير المؤمنين. عمر
ومن خلال هاتين المقدمتين يتضح لنا أن رضي الله عنه وقف ثمغا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ، وتولى هو النظر عليه إلى أن حضرته الوصية في زمن خلافته، فكتب حينئذ الكتاب، خاصة وأنه قد سبق التصريح بأن عمر رضي الله عنه ولي صدقته إلى أن مات. عمر
(151) 2 - ما رواه من طريق مسلم قتادة، عن عن أبيه قال: مطرف، ألهاكم التكاثر قال: « يقول ابن آدم: مالي، مالي » قال: « وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ». أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ:
فدل على أن الصدقة تكون بالإمضاء، وهو القبض.
(152) 3 - ما رواه عن الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، رضي الله عنها قالت: إن عائشة رضي الله عنه نحلها جداد عشرين وسقة من مال بالغابة ، فلما حضرته الوفاة قال : « والله يا بنية، ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك من مالي جداد عشرين وسقا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك ذلك، وإنما هو مال الوارث، وإنما هو أخوك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله... » [ ص: 508 ] وجه الدلالة : هي في قوله : « فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك ذلك »؛ فلولا توقف الملك على القبض لما قال: « إنه ملك وارث »، فيدل الأثر على أن الهبة لا تتم إلا بالقبض فلا تملك إلا به، وكذا الوقف بجامع التبرع. أبا بكر الصديق
4 - ما رواه من طريق الإمام أحمد عن مسلم بن خالد، ، عن أبيه، عن موسى بن عقبة أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: قال لها: « إني قد أهديت إلى أم سلمة حلة وأواني من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى إلا هديتي مردودة علي، فإن ردت علي فهي لك » قال: وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت عليه هديته ، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى النجاشي بقية المسك والحلة ». أم سلمة لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ضعيف] وجه الدلالة : أنه لو كانت الهبة تملك قبل القبض لما استجاز الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتملكه ويتصرف فيه، وكذا الوقف.
(153) - ما رواه من طريق ابن حزم ابن وهب، عن الحارث بن نبهان، عن محمد بن عبيد الله - هو العزرمي - عن عمرو بن شعيب أن وابن أبي مليكة أبا بكر وعمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم، قالوا: « لا تجوز صدقة حتى تقبض ». [ ص: 509 ] وابن عمر
(154) 6 - ما رواه من طريق ابن أبي شيبة سفيان، عن عن جابر، قال : كان القاسم معاذ يقولان: « لا تجوز الصدقة حتى تقبض، إلا الصبي بين أبويه ». وشريح
7 - قياس الوقف على الصدقة العامة؛ إذ لا تتم إلا بالتسليم، فكذا الصدقة الموقوفة لا تتم إلا بالتسليم.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: عدم التسليم، فإن المقيس عليه موضع خلاف بين أهل العلم، فالمالكية يرون أن الصدقة تلزم بمجرد العقد في الجملة.
الوجه الثاني: أنه قياس مع الفارق؛ إذ إن الصدقة العامة تخالف الصدقة [ ص: 510 ] الموقوفة في كثير من الأحكام:
منها: أن الصدقة العامة تخرج إلى ملك المتصدق عليه، بخلاف الصدقة الموقوفة فإنها ملك لله عز وجل - كما سبق.
ومنها: أن الصدقة العامة يملك المتصدق عليه أن ينقل الملك فيها بهبة أو بيع أو صدقة وتورث عنه ، بخلاف الصدقة الموقوفة فإنها لا تباع ولا توهب ولا تورث.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - أن قبض الموقوف وحيازته ليس شرطا لصحته، ولا لزومه؛ لعموم الأدلة، ولقوة دليل القائلين بهذا القول، ومناقشة أدلة القولين الآخرين.