الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني: الصيغة الفعلية

        اختلف الفقهاء في جواز الوقف بالفعل، دون إصدار لفظ من الواقف يدل على الوقف على قولين:

        القول الأول: يجوز الوقف بالفعل، وأنها تقوم مقام الصيغة اللفظية.

        وهو قول جمهور أهل العلم: الحنفية، والمالكية، والحنابلة، واختاره شيخ الإسلام. [ ص: 233 ]

        لكن قيد الحنفية بجريان العرف.

        وقيد الحنابلة الوقف على الفقراء والمساكين والمعين بالعرف.

        قال ابن نجيم: « إنه لا يحتاج في جعله مسجدا إلى قوله: وقفت ونحوه; لأن العرف جار بالإذن في الصلاة على وجه العموم، والتخلية بكونه وقفا على هذه الجهة، فكان كالتعبير به... بخلاف الوقف على الفقراء ولم تجر العادة فيه بالتخلية والإذن بالاستغلال، ولو جرى به عرف اكتفينا بذلك ».

        وقال هلال: « وإذا جعل الرجل داره مسجدا للمسلمين، وبناها كما تبنى المساجد، وأشهد على أنه جعلها مسجدا لله تعالى، فهذا عندنا جائز وإن لم يكن صلى فيها ».

        وقال الدسوقي: « وما يقوم مقامها - أي: ألفاظ وقفت وحبست - ، كالتخلية بين المسجد وبين الناس، ولم يخص قوما دون قوم، ولا فرضا دون نفل، فإذا بنى مسجدا وأذن فيه للناس فذلك كالتصريح بأنه وقف، ولم يخص زمانا ولا قوما، ولا قيد الصلاة بكونها فرضا أو نفلا، فلا يحتاج شيء من ذلك ويحكم بوقفيته ».

        وقال ابن قدامة: « ويصح الوقف بالقول والفعل الدال عليه، مثل أن يبني مسجدا ويأذن للناس في الصلاة فيه، أو مقبرة ويأذن في الدفن فيها، أو سقاية ويأذن في دخولها... » القول الثاني: أن الوقف لا يصح إلا باللفظ.

        وعليه فلا يصح الوقف بالفعل إلا المسجد إذا بناه في أرض موات ونوى [ ص: 234 ] به المسجد صار مسجدا قائما، ولم يحتج إلى صريح قول بأنه مسجد; لأن الفعل مع النية يغنيان عن القول.

        وعلى قياس ذلك غير المسجد من المدارس، والربط، وأما المسجد في أرض مملوكة، فلا يصح بالفعل.

        وإشارة الأخرس المفهومة، وكتابته، وكتابة الناطق كاللفظ.

        وهذا مذهب الشافعية.

        والقول بأن الوقف لا ينعقد إلا باللفظ رواية عن الإمام أحمد.

        قال النووي: « فلا يصح الوقف إلا بلفظ; لأنه تمليك للعين والمنفعة، أو المنفعة، فأشبه سائر التمليكات ».

        قال الأسنوي: « وقياس ذلك إجراؤه في غير مسجد أيضا من المدارس والربط ».

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (صحة الوقف بالفعل ) :

        استدل القائلون بصحة الوقف عن طريق الفعل بالأدلة الآتية:

        1 - قوله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقوله: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم . [ ص: 235 ]

        (42 ) 2 - ما رواه عبد الله من طريق حاتم بن إسماعيل، عن عبد الملك بن حسن الجاري، عن عمارة بن حارثة، عن عمرو بن يثربي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ألا ولا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه، فقلت: يا رسول الله أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي أجتزر، منها شاة؟ فقال: إن لقيتها نعجة تحمل شفرة، وأزنادا بخبت الجميش فلا تهجها، قال: يعني بخبت الجميش أرضا بين مكة والجار ليس بها أنيس ». [ ص: 236 ]

        (43 ) 3 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه ».

        وجه الدلالة: أن المعاطاة تدل عرفا على الرضا، فيلزم من ذلك صحة العقد بها; لأن اللفظ إنما يراد للدلالة على التراضي، فإذا وجد ما يدل عليه قام مقامه، وأجزأ عنه لعدم التعبد فيه.

        4 - أن من تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة - رضوان الله عليهم - من أنواع المبايعات والمؤجرات والتبرعات، علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة، ولو استعلموا ذلك في عقودهم لنقل نقلا شائعا، ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله، ولم يتصور إهماله والغفلة عن نقله; لأن العقود مما تعم بها البلوى، فلو اشترط لها صيغة معينة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم بيانا عاما للناس حتى لا يخفى عليهم حكمها، وإنما المنقول خلاف ذلك في آثار كثيرة منها: [ ص: 237 ] أ - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى مسجده، والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته، ولم يؤمر أحد أن يقول: وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ.

        (44 ) روى البخاري من طريق عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان رضي الله عنه يقول :... سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « من بنى مسجدا - قال بكير: حسبت أنه قال: يبتغي به وجه - بنى الله له مثله في الجنة ».

        5 - أن أسماء العقود وردت في الكتاب والسنة معلقا بها أحكام شرعية، ولا بد لكل اسم حد يعرف به إما باللغة، كالشمس والقمر والبر والبحر، وإما بالشرع، كالمؤمن والكافر والمنافق، وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع: فالمرجع فيه إلى عرف الناس، كالقبض، ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حد، وليس لها حد في لغة العرف أيضا، وبما أن الأمر كذلك فيكون المرجع فيها إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعة فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة.

        6 - أن العرف جار بذلك.

        7 - أن في الفعل دلالة على الوقف، فجاز أن يثبت به كالقول.

        8 - أنه يجري مجرى من قدم إلى ضيفه طعاما، فإنه إذن بأكله، ومن صب في خوابي السبيل ماء كان تسبيلا له، ومن نثر على الفارس نثارا كان إذنا بالتقاطه وأبيح أخذه. [ ص: 238 ]

        أدلة القول الثاني: (عدم انعقاد الوقف بالفعل ) :

        استدل القائلون بعدم صحة الوقف بالمعاطاة بالأدلة الآتية:

        1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .

        وجه الدلالة: أن الأصل في العقود التراضي، غير أن حقيقة الرضا لما كانت أمرا خفيا وضميرا قلبيا، اقتضت الحكمة رد الخلق إلى مرد كلي وضابط جلي، يستدل به عليه، وهو الإيجاب والقبول الدالان على رضا.

        ونوقش هذا الدليل: بأنه لا يوجد في الشرع ما يدل على اشتراط لفظ معين أو فعل معين يستدل به على التراضي، وقد علم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة، ولذلك يقال: إن في القرآن من الفوائد ما يدل على المقاصد، بل ثبت بالأدلة أن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يستعملون المعاطاة وسيلة للتعبير عن الرضا بالعقد، وهذا أمر معهود في ذلك العصر، وفي كل عصر ومصر.

        2 - أن المعاطاة في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيع المنابذة والملامسة.

        (45 ) روى البخاري ومسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: « نهى عن الملامسة والمنابذة، وبيع الحصاة ».

        (46 ) وروى مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة [ ص: 239 ] رضي الله عنه قال: « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر » والجامع بين هذه البيوع والمعاطاة وقوعها بغير لفظ، وكذا الوقف.

        ونوقش هذا الدليل: بعدم التسليم بالقياس; لأنه قياس مع الفارق.

        فبيع الملامسة هو: وقوع العقد باللمس.

        والمنابذة: وقوع العقد بنبذ الثوب ونحوه إلى المشتري.

        وكذلك بيع الحصاة هو: أن يضع عليه حصاة.

        فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع عقد البيع، أما المعاطاة فليست من جنس اللمس والمنابذة والحصاة; لأن العقد معلق فيه هذه البيوع على المخاطرة، ولا تعلق للمس والنبذ ووضع الحصاة بعقد البيع، فليست هذه الأفعال من موجبات العقد ولا من أحكامه، أما المعاطاة فهي تسليم وتسلم، وتسليم المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه.

        والمعاطاة بالوقف: ما يدل عليه، مثل: أن يبني مسجدا ويأذن للناس بالصلاة فيه، أو مقبرة ويأذن بالدفن فيها.

        3 - أن في الصيغة الفعلية نقلا للملك من غير لفظ دال عليه، وقد أحل الله البيع، والبيع اسم للإيجاب والقبول، وليس مجرد فعل بتسليم وتسلم; إذ للمسلم أن يرجع ويقول: قد ندمت، وما بعته; إذ لم يصدر مني إلا مجرد تسليم، وذلك ليس ببيع، وكذا الوقف.

        ونوقش هذا الدليل: بأنه مخالف لما عليه أهل اللغة، فليس البيع في [ ص: 240 ] اللغة اسم للإيجاب والقبول، وإنما هو مبادلة المال بالمال، وحقيقة الصيغة الفعلية هي: الأخذ والإعطاء، أما التلفظ بالإيجاب والقبول فهو مجرد دليل على الرضا بالمبادلة الفعلية.

        ونصوص الشرع دالة على هذا، فمن ذلك قول الله عز وجل: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، والتجارة عبارة عن جعل الشيء للغير ببدل، وهو تفسير التعاطي.

        وقال سبحانه وتعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين أطلق سبحانه وتعالى اسم التجارة على تبادل ليس فيه قول البيع، وقال سبحانه وتعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فقد سمى سبحانه وتعالى مبادلة الجنة بالقتال في سبيل الله تعالى اشتراء وبيعا; لقوله تعالى في آخر الآية: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم .

        وإن لم يوجد لفظ البيع، وكذا الوقف.

        4 - أن العقود أنواع متباينة كالبيع والإجارة والرهن والهبة والصدقة على عوض، والصلح بالمال، والوقف، ولكل منها ماهية تخصه، والرضا المقترن بالمعاوضة جنس شامل لجميع تلك الصور، فلا بد في معرفة كونه بيعا من هبة أو هبة من وقف، أو رهنا من إجارة، ونحو ذلك من بيان كل منها باسم [ ص: 241 ] يخصه، وليس إلا القول المترجم عما في النفس، وإلا كان رجوع بالبيان إلى غير ما جعل الله أمره إليه.

        ويناقش هذا الدليل: بأن التمييز بين العقود يكون باللفظ، وبالقرائن والظروف المحيطة بها، وبالعرف الغالب.

        فإذا ركب شخص سيارة أجرة، ودفع لصاحبها الثمن بعد وصوله مقصده ولم يحدث بينهما كلام، فالعقد إجارة، وإذا أعطى شخص صديقا له ليلة عرسه قلما أو ساعة ونحوهما فالعقد هبة، وإذا دفع رجل إلى بائع الخبز ريالا وأعطاه به خبزا فالعقد بيع، وإذا بنى أرضه مسجدا، وأذن للصلاة فيها كانت وقفا، وهكذا.

        فالعرف والقرائن والظروف تعين على فهم المقصود بوضوح دون لبس أو غموض.

        5 - ولأنه إزالة ملك على وجه القربة، فلا يصح بالفعل كالعتق.

        ونوقش: بعدم التسليم، فالعتق يصح بالفعل كما لو مثل بعبده، فإنه يعتق عليه.

        6 - واحتجوا على جواز بناء ووقف المسجد ونحوه من الربط في الموات: بأن الموات لم يدخل في ملك من أحياه مسجدا.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم بالصواب - رجحان القول الأول، القاضي بصحة عقد الوقف بالصيغة الفعلية; لقوة أدلة هذا القول، وضعف أدلة الأقوال الأخرى; حيث لم تسلم من المناقشة والنقد.

        ولأن الألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد [ ص: 242 ] المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو إيماء، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة مطردة لا يخل بها.

        ويؤيده أن القائلين بعدم صحة العقد بالصيغة الفعلية، كما هو المشهور عن الشافعية لهم استثناءات، فاستثنوا المسجد، فيصح عن طريق الفعل، مما يدل على عدم انضباط قولهم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية