الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني: الشرط الثاني: أن يكون الوقف منجزا

        (الوقف المعلق)

        وفيه مسائل:

        المسألة الأولى: أن يكون التعليق على شرط مستقبل:

        إذا علق الواقف الوقف على شرط مستقبل، كأن يقول: وقفت هذا البيت إذا جاء شهر رمضان، أو إذا رضي أبي، ونحو ذلك.

        فهل يصح وينعقد الوقف مع هذا التعليق أو لا ينعقد؟ إن كان الوقف مسجدا صح، وإن كان غير مسجد، فللعلماء رحمهم الله قولان في حكم تعليق الوقف على الشرط:

        القول الأول: صحة تعليق الوقف على الشرط.

        وهذا مذهب المالكية، وقول عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم. [ ص: 493 ]

        وعند المالكية: إن حصل على الواقف دين قبل الأجل فإنه يضر عقد الوقف، إلا إن حيز الوقف، أو كانت منفعته لغير الواقف.

        القول الثاني: عدم صحة تعليق الوقف على شرط.

        وإلى هذا ذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

        أدلة القول الأول: (صحة تعليق الوقف على الشرط) :

        (139) 1 - ما رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مسلم بن خالد، عن موسى بن عقبة، عن أبيه، عن أم كلثوم، وحدثنا حسين بن محمد قال: ثنا مسلم فذكره، وقال: عن أمه أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها: « إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى إلا هديتي مردودة علي، فإن ردت علي فهي لك، قال: وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت عليه هديته ، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة ». [ ص: 494 ]

        وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الهبة على رجوعها، وكذا الوقف.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أن هذا ليس هبة؛ بل هو وعد بالهبة.

        ويجاب: بأن ظاهر اللفظ في قوله: « فهو لك » يقتضي الهبة، وما عداه خلاف الظاهر.

        الثاني: أن الحديث ضعيف.

        (140) - ما رواه البخاري من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة » . [ ص: 495 ]

        ففي هذا تعليق عقد الإمارة، فكذا الوقف.

        3 - أن تعليق العقود والتبرعات ونحوها بالشرط أمر تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة، والمكلف قد لا يستغني عن التعليق، والشارع لا يمنع مثل هذا؛ إذ لا محذور فيه.

        4 - أن الأصل في العقود والشروط في العقود الصحة.

        أدلة القول الثاني: (عدم صحة تعليق عقد الوقف) : استدل القائلون بعدم صحة تعليق عقد الوقف بالأدلة الآتية:

        1 - أن الوقف تمليك لمعين في الحياة، فلم يجز تعليقها في الحياة على شرط كالبيع.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: الفرق بين البيع والوقف، فالبيع عقد معاوضة، والوقف عقد تبرع.

        الوجه الثاني: عدم التسليم بالمنع في المبيع، بل البيع مما يجوز تعليقه على شرط؛ لعدم المانع، والأصل الصحة.

        2 - أن التبرع تمليك، والتمليكات تبطل بالتعليق.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذا الاستدلال في محل النزاع، والأصل الذي بني عليه غير مسلم، فعقود التمليكات تقبل التعليق. [ ص: 496 ]

        3 - أن الوقف عقد يبطل بالجهالة، فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع.

        ويناقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن التعليق لا جهالة فيه، فإن الشرط المعلق عليه إن تحقق فقد تم العقد، وإن لم يتحقق لم يتم، وتحققه من عدمه معلوم وليس مجهولا.

        الوجه الثاني: أن القياس على البيع مبني على عدم صحة تعليق البيع وهذا غير مسلم، بل البيع يصح تعلقه على شرط عند بعض أهل العلم.

        4 - أنه عقد يقتضي نقل الملك لله تعالى أو للموقوف عليه حالا كالبيع والهبة، فلا يصح إلا منجزا.

        ويناقش: بنحو ما نوقش به ما سبق؛ حيث إن نقل الملك لا يمنع التعليق، كما أن البيع والهبة يصح فيهما التعليق على قول طائفة من العلماء، وهو قول قوي.

        5 - أن الوقف لا يحتمل التعليق بالخطر.

        ونوقش: بعدم التسليم؛ لأن غاية ما في الوقف المعلق أنه إن حصل الشرط الذي علق عليه الوقف تحقق وحصل الوقف، وإلا فلا.

        6 - أن الوقف لا يحلف به وتعليق ما لا يحلف به لا يصح.

        ونوقش: بعدم التسليم؛ لأن كل ما لا يحلف به لا يصح تعليقه، بل يصح تعليق البيع والإجارة ونحوهما، وهذه العقود لا يحلف بها. [ ص: 497 ]

        7 - أنه نقل للملك فيما لم يبن على التغليب والسراية، فلم يجز تعليقه على شرط كالهبة.

        ونوقش هذا الاستدلال: لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الهبة تمليك لمعين بينما الوقف إخراج الملك لله، ثم إنه لا يسلم أن الهبة لا يصح تعليقها، بل يصح تعليقها على الراجح، كما بينته في كتابي: أحكام الهبة.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - صحة تعليق عقد الوقف على شرط مستقبل؛ لقوة دليلهم، ولأنه إحسان محض وفي تعليقها تكثير لهذا الإحسان، ولأن القائلين بمنع التعليق أجازوا التعليق في بعض عقود التمليك مما يدل على اضطراب هذا الأصل عندهم، وعدم اطراد قاعدتهم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية