الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        فرع: أرباح هذا النوع من المكاسب:

        اختلف العلماء في أرباح المكاسب المحرمة الحاصلة من غير تراض على أقوال:

        القول الأول: أن هذه الأرباح التي حصلت بعمل من الكاسب يكون الكاسب فيها شريكا للمالك.

        وهو رواية عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن القيم.

        وحجته:

        (158) ما رواه الإمام مالك عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة، فرحب بهما وسهل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من [ ص: 523 ] متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ، ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك، ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا ، فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين، فأسلفكما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين، هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه؟ فقال عمر: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا؟ فقال عمر: قد جعلته قراضا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال.

        القول الثاني: أنها لأصحاب هذه المكاسب، والكاسب ليس له شيء، وهو قول الشافعية والحنابلة.

        القول الثالث: ما نتج من غير عمل الكاسب كنسل الحيوان ولبنه، فهو للمالك، وما كان من عمل الكاسب فهو للكاسب، لكن لا تطيب للكاسب الأرباح، إلا إذا رد رأس المال لصاحبه.

        وهو قول المالكية.

        القول الرابع: أنه يجب التصدق بها. [ ص: 524 ]

        وهو قول الحنفية، ورواية عن أحمد.

        وعلى القول بأنه يتصدق بها وجب أن يخرجها فورا، فإن لم يتمكن أوصى بها في جهات البر.

        الحال الثانية: المأخوذ بغير إذن الشارع ولكن برضا المالك، كالمال المكتسب بطريق الميسر والقمار، أو الربا، أو الغناء، ونحو ذلك من المكاسب المحرمة، فلا يخلو من فرعين:

        الفرع الأول: أن يكون في ذمم الناس لم يقبض بعد:

        فهذا ليس له إلا رأس ماله، وما زاد من محرم فليس له أخذه، وعليه ليس له الوصية به.

        والدليل على ذلك : قول الله تعالى: وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .

        (159) ولما رواه مسلم من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا؛ ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله».

        الفرع الثاني: أن يكون هذا الكسب قد قبض إما بالنسبة للقابض لهذا المال إذا تاب وأناب:

        فإن كان هذا القابض يعتقد صحة هذا العقد الربوي كالكافر الذي كان يتعامل بالربا قبل إسلامه، أو تحاكمه إلينا، وكالمسلم إذا عقد عقدا مختلفا فيه بين العلماء، وهو يرى صحة هذا النوع بالاجتهاد أو التقليد، أو المسلم [ ص: 525 ] الذي يعامل ولكنه يجهل ولا يعلم، وقد قبض بهذه المعاملة مالا، فلما تبين له أن هذه المعاملة من الربا تاب منها.

        إذا كان الأمر - كما ذكر - فإنه يكون ملكا لما قبضه ؛ لقوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله وعليه فله الوصية به.

        قال الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف معنى هذه الآية الكريمة أن من جاءه موعظة من ربه يزجره بها عن أكل الربا فانتهى؛ أي: ترك المعاملة بالربا؛ خوفا من الله تعالى، وامتثالا لأمره فله ما سلف؛ أي: ما مضى قبل نزول التحريم من أموال الربا، ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله لا يؤاخذ الإنسان بفعل أمر إلا بعد أن يحرمه عليه، وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، فقد قال في الذين كانوا يشربون الخمر، ويأكلون مال الميسر قبل نزول التحريم: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية.

        وقال في الذين كانوا يتزوجون أزواج آبائهم قبل التحريم: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، أي: لكن ما سلف قبل التحريم فلا جناح عليكم فيه، ونظيره قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف وقال في الصيد قبل التحريم: عفا الله عما سلف الآية. [ ص: 526 ]

        وقال في الصلاة إلى بيت المقدس قبل نسخ استقباله : ... وما كان الله ليضيع إيمانكم ، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل النسخ.

        ومن أصرح الأدلة في هذا المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما استغفروا لقربائهم الموتى من المشركين، وأنزل الله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، وندموا على استغفارهم للمشركين أنزل الله في ذلك: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، فصرح بأنه لا يضلهم بفعل أمر إلا بعد بيان اتقائه ».

        أما إذا كان القابض مسلما متعمدا تلك المعاملة عالما بأنه محرم ثم تاب بعدما تجمعت لديه الأموال المحرمة، فاختلف العلماء - رحمهم الله - في طريق التوبة من المكاسب المحرمة الحاصلة بعقود فاسدة، وقد استوفى الطرفان العوض، والمعرض على قولين:

        القول الأول: أنه يجب على الكاسب التصدق به.

        وبه قال شيخ الإسلام.

        قال ابن تيمية : « أصحهما أن لا نردها على الفساق الذين بذلوها في المنفعة المحرمة، ولا يباح الأخذ، بل يتصدق بها وتصرف في مصالح المسلمين، كما نص عليه أحمد في أجرة حمل الخمر ». [ ص: 527 ]

        وحجته :

        1 - أنه لا يجمع لمن استوفى المنفعة المحرمة بين العوض والمعوض.

        ونوقش: بأن هذه المكاسب المحرمة على ملك أصحابها ؛ لأنها انتقلت بعقد فاسد.

        2 - أن هذه المكاسب حصلت بسبب خبيث، وما هذا حاله فسبيله التصدق به.

        (160) 3 - ما رواه مسلم من طريق السائب بن يزيد، حدثني رافع بن خديج، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، و كسب الحجام خبيث ».

        فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه.

        القول الثاني: يجب أن يرد إلى مالكه .

        وحجته: أنه عين ماله ولم يقبضه الكاسب قبضة شرعية، ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح.

        ونوقش:

        قال ابن القيم: « وهب أن هذا المال لم يملكه الآخذ فملك صاحبه قد زال عنه بإعطائه لمن أخذه، وقد سلم له ما في قبالته من النفع، فكيف يقال ملكه باق عليه ويجب رده إليه؟ وهذا بخلاف أمره بالصدقة به، فإنه قد أخذه من وجه خبيث برضا صاحبه، وبذله له بذلك وصاحبه قد رضي بإخراجه عن ملكه بذلك، وأن لا يعود إليه، فكان أحق الوجوه به صرفه في المصلحة التي ينتفع بها من قبضه، ويخفف عنه الإثم ولا يقوى الفاجر به ويعان ويجمع له [ ص: 528 ] بين الأمرين، وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدر الحرام ويطيب باقي ماله، والله أعلم ».

        قال ابن القيم: « وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض على خمر، أو خنزير، أو على زنى، أو فاحشة، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان وتيسير أصحاب المعاصي عليه، وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله، فهذا مما تنصان الشريعة عن الإتيان به ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر، ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها، ثم يرجع فيما أعطاها قهرا وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء، فلا تأتي به شريعة ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خبثه لخبث مكسبه لا لظلم من أخذ منه، فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة به ».

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - أنه يتصدق به؛ لقوة دليله.

        وعلى القول بأنه يتصدق بها جاز أن تجعل وقفا على جهات البر إذا لم يمكن إخراجها فورا.

        فإن كان الكاسب فقيرا جاز أن يأخذ قدر حاجته من هذا المال.

        قال النووي: « وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرا؛ لأن [ ص: 529 ] عياله إذا كانوا فقراء، فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته ؛ لأنه أيضا فقير ».

        وقال شيخ الإسلام: « فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به ولم يردوا عوض القرض كان أحسن ».

        فإن لم يتب من كسبه محرما، فلا يخلو من فرعين:

        الفرع الأول: أن يكون جميع مال الواقف محرما فلا يصح وقفه ؛ لما تقدم من أنه يشترط أن يكون الوقف مالا شرعيا.

        الفرع الثاني: أن يكون ماله مختلطا من الحلال والحرام، فاختلف العلماء في قبول تبرعه، وعلى هذا صحة وقفه على أقوال أربعة:

        القول الأول: أنه يكره قبول تبرعه، قل الحرام أو كثر.

        وبه قال بعض المالكية، وهو قول الشافعية، وهو مذهب الحنابلة.

        القول الثاني: أنه يجوز قبول تبرعه إذا غلب الحلال على الحرام إذا لم يتيقن أن ما قدم له من عين الحرام.

        وبه قال ابن القاسم من المالكية، وقول عند الحنابلة.

        القول الثالث: يجوز قبول تبرعه ، قل الحرام أو كثر. [ ص: 530 ]

        وبه قال الشوكاني.

        القول الرابع: يحرم قبول تبرعه مطلقا، قل الحرام أو كثر.

        وبه قال بعض المالكية، وقول عند الحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة أصحاب القول الأول:

        1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق عامر، قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « الحلال بين، والحرام بين ، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ».

        وجه الدلالة: أنه إذا وقع الاشتباه في هذا المتبرع به، فالأولى للمسلم أن يستبرئ دينه وعرضه ويتركه مخافة أن يكون حراما، فبما أن الحديث يطلب الاستبراء دون النهي الدال على التحريم كان القول بالكراهة أقرب.

        2 - أن الأصل في هذا الشيء المتبرع به الإباحة، والحرام محتمل، ولا يثبت التحريم بمجرد الاحتمال.

        3 - أن الحرام لما اختلط بماله صار شائعا فيه ، فإذا قبل تبرعه كان ذلك من المتشابه الممنوع منه على وجه التوقي كان مكروها. [ ص: 531 ]

        دليل القول الثاني: استدل لهم بقول الله عز وجل: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما .

        وجه الدلالة: أن الخمر والميسر حرما مع أن فيهما منافع للناس، وسبب التحريم أن إثمهما أكبر من نفعهما، كذلك هنا لما غلب الحرام حرم قبول التبرع، أما إذا غلب الحلال حل قبول التبرع اعتبارا بالغالب.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه يعسر ضبط القليل والكثير.

        دليل القول الثالث:

        (161) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها، فقيل: ألا نقتلها؟ قال: لا، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

        2 - أن الصحابة رضي الله عنهم، بعد الخلافة الراشدة يأخذون العطايا ممن جاءت بعد الخلفاء رضي الله عنهم ممن تولى أمر المسلمين، مع تلبسهم بشيء مما لا يبيحه الشرع.

        دليل القول الرابع: أن الحرام لما اختلط بماله صار شائعا فيه، فإذا عامله في شيء منه فقد دخل في جزء من الحرام. [ ص: 532 ]

        ونوقش من وجهين :

        الأول: أنه مخالف لما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبول هدايا الكفار.

        الثاني: عدم التسليم؛ فإنه لا يتيقن أن ما أخذه من المال الحرام، وأيضا هو يوقع في الحرج والمشقة.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - جواز قبول تبرع من اختلط ماله بالمال الحرام، وفي الكراهة تردد - والله أعلم - وعلى هذا يصح وقفه.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية