المسألة الثانية: وقف ما فيه نفع من الحيوان:
اختلف العلماء - رحمهم الله - في كوقف الخيل للجهاد، والحمر لنقل الفقراء، والإبل لحمل الأثقال، والسبع المعلم غير الكلب، والفحل للضراب، على أقوال: وقف ما فيه منفعة من الحيوان،
القول الأول: جواز وقف الحيوان مطلقا. [ ص: 605 ]
وهو المعتمد عند المالكية، وبه قال الشافعية، والحنابلة.
في حاشية العدوي: « وكذا يجوز وقف الحيوان والعروض، وفي وقف الطعام الذي تطول إقامته كالقمح، ووقف الدنانير والدراهم تردد ».
وفي الوسيط: « الركن الأول في الموقوف، وشرطه أن يكون مملوكا...أما قولنا: مملوكا عممنا به العقار، والمنقول، والحيوان، والشائع والمفرز ».
وفي المغني: « وجملة ذلك: أن الذي يجوز وقفه ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه، وكان أصلا يبقى بقاء متصلا كالعقار والحيوانات والسلاح والأثاث ».
القول الثاني: جواز وقف الحيوان تبعا للعقار، وأما استقلالا فيجوز وقف الكراع - وهو: الخيل والإبل والبغال والحمير والثيران التي يحمل عليها - وكل ما جرى به تعامل.
وهو الصحيح من مذهب الحنفية.
القول الثالث: جواز وقف الحيوان تبعا للعقار، وأما استقلالا فيجوز وقف الكراع دون غيره. [ ص: 606 ]
وبه قال من أبو يوسف الحنفية.
القول الرابع: جواز وقف الخيل للجهاد دون غيرها.
وبه قال بعض المالكية.
القول الخامس: عدم جواز وقف الحيوان مطلقا.
وبه قال وهو رواية عن أبو حنيفة، وبه قال بعض الإمام مالك، المالكية، ورواية عن ومنع الإمام أحمد، الحارثي هذه الرواية، وجعل المذهب رواية واحدة.
الأدلة :
أدلة القول الأول: (جواز وقف الحيوان) :
1 - عمومات أدلة مشروعية الوقف، ويدخل في ذلك وقف الحيوان.
2 - ما تقدم قريبا من الأدلة على مشروعية وقف المنقول، ويدخل في ذلك وقف الحيوان.
3 - حديث رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبي هريرة « من احتبس فرسا في سبيل الله، إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ».
4 - أن امرأة قالت لزوجها: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك، فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت: أحجني على جملك فلان، قال: [ ص: 607 ] ذلك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال : « أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله ».
5 - أن الحيوان عين يصح عاريتها، فيصح وقفها .
6 - أن الحيوان أصل يبقى ويصح الانتفاع به فصح وقفه؛ لأنه موف بحكمة الوقف كالعقار.
7 - أن الحيوان عين يجوز بيعها، وينتفع بها دائما مع بقائها، وكل ما جاز بيعه وأمكن الانتفاع به مع بقاء أصله جاز وقفه.
دليل القول الثاني:
استدل من قال بجواز وقف الحيوان تبعا للعقار، وجواز وقفه استقلالا إذا كان كراعا، أو مما جرى به التعامل:
أولا: استدلوا على الجواز في الكراع بالاستحسان، ووجهه الأحاديث الواردة في ذلك، ومنها:
ما جاء في حديث رضي الله عنه في قصة منع أبي هريرة وصاحبيه رضي الله عنه الزكاة من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن خالد بن الوليد خالد: « قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله ».
وقد تقدم أن « أعتده » يدخل فيها الدواب والسلاح، بل قيل: المقصود بها الخيل خاصة.
وما رواه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو هريرة « من احتبس فرسا في [ ص: 608 ] سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزان حسناته ».
كما يصلح الاستدلال لهم ببقية ما استدل به أصحاب القول الأول مما جاء في وقف الحيوان كحديث رضي الله عنه، ابن عباس رضي الله عنهما، وابن عمر وأم عقيل رضي الله عنها، وما جاء في وقف الكراع والسلاح كحديث رضي الله عنه. عمر
ثانيا: واستدلوا على جواز وقف جميع ما تعارف الناس على وقفه وتعاملوا به: ما تقدم من الدليل على جواز من وقف المنقول، وتقدم مناقشته. وقف جميع ما تعارف الناس على وقفه وتعاملوا به
ثالثا: وأما جواز وقف الحيوان تبعا للعقار، فلأنه لما جاز إفراد الحيوان بالوقف إذا كان كراعا، أو كان مما جرى العمل على وقفه، فلأن يجوز وقفه تبعا للعقار من باب أولى.
وتقدم مناقشة هذا الدليل في مبحث وقف المنقول.
دليل القول الثالث:
1 - ما تقدم من الدليل في القول الثاني على صحة وقف الكراع.
2 - ما تقدم من الدليل في القول الثاني على صحة وقف الحيوان تبعا للعقار.
ونوقش : بما نوقش به دليل القول الثاني .
دليل القول الرابع:
يستدل للقول بجواز وقف الخيل للجهاد دون غيرها بأن الأدلة على جواز وقف الحيوان جاءت في الخيل خاصة، وقد تقدمت قريبا. [ ص: 609 ]
ونوقشت هذه الأدلة من وجهين:
الوجه الأول: ما تقدم من أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات، وأن ورود النص في الكراع لا يمنع من نفوذه غيره مما فيه منفعة من الحيوان قياسا.
الوجه الثاني: أن النص ورد في غير الخيل، كما سبق في أدلة الرأي الأول.
أدلة القول الخامس: (عدم جواز وقف الحيوان) :
يستدل للمنع من وقف الحيوان مطلقا بما يأتي:
1 - أن النص إنما ورد في العقار، فيقتصر عليه.
ونوقش بعدم التسليم؛ فالنص ورد أيضا في وقف الحيوان كما في أدلة الرأي الأول.
2 - أن الوقف إنما يراد للدوام، والتأبيد لا يمكن إلا في العقار، فلم يجز في غيره مما لا يدوم كالحيوان.
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول : عدم التسليم بأن الوقف فيما يدوم ويتأبد؛ بدليل صحة وقف المنافع، وما يفنى باستهلاكه من الأعيان، وقد تقدم مناقشة هذه الدعوى في مبحث وقف المنقول.
الوجه الثاني: أنه اجتهاد في مقابلة النص، فيكون فاسد الاعتبار.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - مشروعية وقف ما فيه منفعة من الحيوان؛ لقوة دليله، وضعف دليل المخالف بمناقشته، ولأن الأصل أن الوقف فعل خير وقربة، فيكثر منه، ويحث عليه.