مطلب : في بيان منشأ العجب ، وأنه ليس من شأن العقلاء . 
( الخامس ) : العجب إنما يكون ويوجد من الإنسان لاستشعار وصف كمال ، ومن أعجب بعمله استعظمه فكأنه يمن على الله - سبحانه وتعالى - بطاعته ، وربما ظن أنها جعلت له عند الله موضعا ، وأنه قد استوجب بها جزاء ، ويكون قد أهلك نفسه ، فقد قال  عليه الصلاة والسلام { ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه    } وربما منعه عجبه من الازدياد ، ولهذا قالوا : عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله . 
وما أضر العجب بالمحاسن . 
وسبب العجب وعلته الجهل المحض . 
ومن أعجب بطاعته مثلا فما فهم أنها بالتوفيق حصلت . 
فإن قال : رآني أهلا لها فوفقني . 
قيل له : فتلك نعمة من منه وفضله فلا تقابل بالإعجاب . 
وفي صيد الخاطر للإمام الحافظ ابن الجوزي    - طيب الله ثراه - : إذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملا ، ولم يعجب به لأشياء : منها أنه وفق لذلك العمل ، وحبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم . 
ومنها أنه إذا قيس بالنعم لم يف  [ ص: 226 ] بمعشار عشرها ، ومنها أنه إذا لوحظت عظمة المخدوم احتقر كل عمل وتعبد . 
هذا إذا سلم من شائبة وخلص من غفلة ، فأما والغفلات تحيط به فينبغي أن يغلب الحذر من رده ويخاف العقاب على التقصير فيه فيشتغل عن النظر إليه ، وتأمل على الفطناء أحوالهم في ذلك . 
فالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون قالوا : ما عبدناك حق عبادتك . 
 والخليل  عليه الصلاة والسلام يقول { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين     } وما دل بصبره على النار وتسليمه الولد إلى الذبح . 
ورسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول { ما منكم من ينجيه عمله قالوا : ولا أنت ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته    } . 
 وعمر  يقول : لو أن لي طلاعا على الأرض لافتديت بها من هول ما أمامي قبل ( أن ) أعلم ما الخبر . 
 وابن مسعود    : يقول : وددت إذ مت لا أبعث . 
 وعائشة  تقول : ليتني كنت نسيا منسيا . 
وهذا شأن جميع العقلاء . 
وقد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل  ما يدل على قلة الإفهام لما شرحته ; لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلوا بها . 
مطلب : حكاية العابد . 
فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة ، وأخرج له كل ليلة رمانة ، وسأل الله - تعالى - أن يميته في سجوده ، فإذا حشر قيل له ادخل الجنة برحمتي ، قال بل بعملي ، فيوزن جميع عمله بنعمة واحدة فلا يفي ، فيقول : يا رب برحمتك . 
قلت : هذا الحديث الذي أشار إليه الإمام الحافظ ابن الجوزي  أخرجه  الحاكم  عن سليمان بن هرم  عن  محمد بن المنكدر  عن  جابر  رضي الله عنه وقال صحيح الإسناد . قال  جابر    { خرج علينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقال خرج من عندي خليلي جبريل  آنفا فقال : يا محمد  والذي بعثك بالحق إن لله عبدا من عباده عبد الله خمسمائة سنة على رأس جبل في البحر ، عرضه وطوله ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا ، والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية وأخرج له عينا عذبة بعرض الأصبع تبض بماء عذب ، فيستنقع في  [ ص: 227 ] أسفل الجبل ، وشجرة رمان تخرج في كل ليلة رمانة يتعبد يومه فإذا أمسى نزل فأصاب من الوضوء ، وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام لصلاته فسأل ربه عند وقت الأجل أن يقبضه ساجدا ، وأن لا يجعل للأرض ، ولا لشيء يفسده عليه سبيلا حتى يبعثه ، وهو ساجد قال ففعل فنحن نمر عليه إذا هبطنا ، وإذا خرجنا فنجد له في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله فيقول له الرب : أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ، فيقول : رب بل بعملي فيقول : أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ، فيقول : رب بل بعملي فيقول الله : قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله ، فيوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه فيقول : أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي : رب برحمتك أدخلني الجنة فيقول : ردوه فيوقف بين يديه فيقول يا عبدي من خلقك ، ولم تك شيئا ؟ فيقول : أنت يا رب ، فيقول : من قواك لعبادة خمسمائة سنة ؟ فيقول : أنت يا رب ، فيقول : من أنزلك في جبل وسط اللجة ، وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح ، وأخرج لك كل ليلة رمانة ، وإنما تخرج مرة في السنة ، وسألته أن يقبضك ساجدا ففعل ؟ فيقول : أنت يا رب قال : فذلك برحمتي ، وبرحمتي أدخلك الجنة ، أدخلوا عبدي الجنة ، فنعم العبد كنت يا عبدي فأدخله الله الجنة قال جبريل    : إنما الأشياء برحمة الله يا محمد  والله الموفق    } . 
مطلب : حكاية من انطبقت عليهم الصخرة . 
وفيه كلام نفيس قال ابن الجوزي    : وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة وقد قدمت حديثهم . 
قال : فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحيي من ذكره ، وهو أنه عزم على الزنا ثم خاف العقوبة فتركه . 
فليت شعري بماذا يدل من خاف أن يعاقب على شيء فتركه لخوف العقوبة إنما لو كان مباحا فتركه كان فيه ما فيه . 
ولو فهم لشغله خجل التهمة عن الإدلال كما قال يوسف  عليه السلام . 
والآخر ترك صبيانه يتضاغون إلى الفجر ليسقي أبويه اللبن . 
وفي ضمن هذا البر أذى  [ ص: 228 ] للأطفال . 
قال : ولكن الفهم عزيز . 
وكأنهم لما أحسنوا قال لسان الحال : أعطوهم ما طلبوا فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا . 
ثم قال : ولولا عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه ، ولكان كل كامل خائفا محتقرا لعمله حذرا من التقصير في شكر ما أنعم عليه . 
وفهم هذا المشروح ينكس رأس الكبر ويوجب مساكنة الذل . 
وقال في مكان آخر من الكتاب المذكور : عجبت لمن يعجب بصورته ، ويختال في مشيته ، وينسى مبدأ أمره ، إنما أوله لقمة ضمت إليها جرعة ماء ، فإن شئت فقل كسرة خبز معها تمرات ، وقطعة من لحم ، ومذقة من لبن ، وجرعة من ماء ، ونحو ذلك ، طبخته الكبد ، فأخرجت منه قطرات مني فاستقرت في الأنثيين ، فحركتها الشهوة ، فبقيت في بطن الأم مدة حتى تكاملت صورتها ، فخرجت طفلا تتقلب في خرق البول . 
وأما آخره فإنه يلقى في التراب فيأكله الدود ، ويصير رفاتا تسفيه السوافي . 
وكم يخرج تراب بدنه من مكان إلى مكان آخر ، ويقلب في أحوال إلى أن يعود فيجمع . 
وأما الروح فإن تجوهرت بالأدب ، وتقومت بالعلم ، وعرفت الصانع ، وقامت بحقه ، فلا يضرها نقض المركب . 
وإن هي بقيت على طبعها من الجهالة شابهت الطين ، بل صارت إلى أخس حالة منه . 
وقال في موضع آخر من الكتاب المذكور : اعتبرت على أكثر العلماء والزهاد أنهم يبطنون الكبر . 
فهذا ينظر في موضعه وارتفاع غيره عليه ، وهذا لا يعود مريضا فقيرا يرى نفسه خيرا منه ، حتى رأيت جماعة يومأ إليهم ، منهم من يقول : لا أدفن إلا في دكة الإمام  أحمد بن حنبل    . 
ويعلم أن في ذلك كسر عظام الموتى ، ثم يرى نفسه أهلا لذلك ، ومنهم من يقول : ادفنوني إلى جانب مسجدي ظنا منه أنه يصير بعد موته مزورا كمعروف ، ولا يعلمون قول النبي  صلى الله عليه وسلم { من ظن أنه خير من غيره فقد تكبر    } وقل ما رأيت إلا وهو يرى نفسه . 
والعجب كل العجب ممن يرى نفسه . 
أتراه بماذا رآها . 
إن كان بالعلم فقد  [ ص: 229 ] سبقه العلماء . 
أو بالتعبد فقد سبقه العباد . 
أو بالمال فالمال لا يوجب بنفسه فضيلة دينية . 
فإن قال : عرفت ما لم يعرف غيري من العلم في زمني فما علي ممن تقدم . 
قيل له : ما نأمرك يا حافظ القرآن أن ترى نفسك في الحفظ كمن يحفظ النصف ، ولا يا فقيه أن ترى نفسك في العلم كالعامي إنما نحذر عليك أن ترى نفسك خيرا من ذلك الشخص المؤمن وإن قل علمه ، فإن الخيرية بالمعاني لا بصور العلم والعبادة . 
ومن تأمل خصال نفسه وذنوبها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير ، وهو من حال غيره على شك ، فالذي نحذر منه الإعجاب بالنفس ورؤية التقدم في أحوال الآخرة . 
والمؤمن لا يزال يحتقر نفسه . 
وقد قيل  لعمر بن عبد العزيز  إن مت ندفنك في حجرة رسول الله  صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إلي من أن أرى نفسي أهلا لذلك . 
قال - أي ابن الجوزي    - : وقد روينا أن رجلا من الرهبان رأى في المنام قائلا يقول له : فلان الإسكاف خير منك ، فنزل من صومعته فجاء إليه فسأله عن عمله ، فلم يذكر له كبير عمل . 
فقيل له في المنام عد إليه ، وقل له : مم صفرة وجهك ؟ فعاد فسأله ، فقال : ما رأيت مسلما إلا وظننته خيرا مني ، فقيل له : فبذاك ارتفع . انتهى . 
				
						
						
