مطلب : فيمن أحدث مقاصير في المساجد . 
الثامن : رفع لشيخ الإسلام ابن تيمية  سؤال فيمن أحدث مقاصير في المساجد  ويخصص بها دون غيره ، أو جعلها له ولغيره ، فهل يجوز ذلك أم لا ، وهل على ولي الأمر منعه ؟ . 
أجاب  رضي الله عنه : ليس لأحد أن يختص بمكان من المسجد بحيث يمنعه غيره في أوقات العبادات ، فكيف بمن يتخذ مقصورة في المسجد بمنزلة البيت الذي يقيم فيه ويمنع غيره من دخوله ، فإن هذا غير جائز بلا نزاع ، بل { كان النبي  صلى الله عليه وسلم ينهى عن توطن المكان في المسجد كما يوطن البعير    } . 
قال ولهذا نهى العلماء عن أن يتخذ الرجل مكانا من المسجد لا يصلي إلا فيه  ، وجعلوا هذا من الاختصاص المنهى عنه ; لما في ذلك من الفساد ، مثل كون الرجل إذا رأى غيره سبقه إليه في الصلاة أو غيرها أبغضه أو سبه أو عاداه . 
والسنة في المسجد أن من سبق إلى بقعة منه لعمل  [ ص: 328 ] جائز فهو أحق بها حتى يقوم . 
والسنة في الصلاة أن يسد الصف الأول فالأول ، كما قال النبي  صلى الله عليه وسلم { ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ، قال يسدون الأول فالأول ، ويتراصون في الصف    } فمن سبق إلى الصف الأول فهو أحق به ما دام في الصلاة . 
ولو سبق إلى سارية فهو أحق بها بذلك إلا أن يكون هناك مصلي يريد أن يصلي إلى السارية فإنه أحق به ، كما قال  عمر بن الخطاب    : المصلون أحق بالسواري من غيرهم ، وهذا عند الازدحام . 
ولو أراد الاعتكاف في المسجد  فهو أحق بمعتكفه ما دام معتكفا ، فإن الاعتكاف عبادة مختص بالمسجد . 
ولو احتاج أن يجعل له في اعتكافه ما يستره من الناس مثل الحجرة الذي احتجرها رسول الله  صلى الله عليه وسلم حين كان يعتكف كان ذلك مشروعا ، بل كان السلف  ينصبون الخيام في المساجد مدة الاعتكاف  للرجال والنساء ، فهذا مشروع . 
وكذلك لو أقام الرجل في المسجد مدة إقامة مشروعة ، كما أذن النبي  صلى الله عليه وسلم لوفد ثقيف  أن ينزلوا بالمسجد ليكون أرق لقلوبهم وأقرب إلى دخول الإيمان فيها ، وكما مرض  سعد بن معاذ  رضي الله عنه في المسجد ليكون أسهل لعيادته وكالمرأة التي كانت تقم المسجد وكان لها حفش فيه ، أي والحفش - كما في المطالع بالحاء المهملة والفاء فشين معجمة - الدرج وجمعه حفاش . وفي الحديث { هلا جلس في حفش أمه أي بيتها    } . شبه بيت أمه في صغره به . وقال  الشافعي  رضي الله عنه : هو البيت القريب السمك . وقال  مالك  رضي الله عنه : هو الصغير الخرب . وقيل : الحفش شبه القبة ، تجمع فيه المرأة غزلها وسقطها ، كالدرج يصنع من الخوص يشبه به البيت الصغير الحقير . انتهى . 
قال شيخ الإسلام    : فإذا احتاج أحد هؤلاء إلى سترة كخيمة  سعد  وحفش المرأة كان جائزا . 
فأما أن يتخذ المسجد مسكنا دائما ويتخذه مبيتا ومقيلا ويختص بالحجرة اختصاص أهل الدور بدورهم دائما فهذا يقرب من إخراج هذه البقعة عن حكم المسجد . 
ولهذا تنازع الفقهاء الذين يشترطون في الجمعة كأصحاب  مالك   والشافعي  في صحة الجمعة في مثل هذه المقاصير  على قولين . 
وتنازع من لا يجوز الصلاة في الأرض المغصوبة  كإحدى  [ ص: 329 ] الروايتين عن الإمام  أحمد  رضي الله عنه في صحة هؤلاء مطلقا في الأماكن المتحجرة في المسجد على قولين ، ولم يتنازعوا في أن فاعل ذلك آثم عاص يجب منعه من ذلك بل له أثر نصيب من  قوله تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم     } 
فإن هذه البقاع من المساجد ، فإذا منع من له فيها حق أن يذكر فيها اسم الله بصلاة أو قراءة أو دعاء أو ذكر أو تعلم أو تعليم كان ذلك نوعا مما تناولته الآية . 
وكذلك تخريب المساجد ضد عمارتها ، وليست عمارتها المحمودة بمجرد بنيان الحيطان والسقوف ، فإن ذلك يصح من الكافر والفاسق . 
وقد قال - تعالى - : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم ، وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر     } الآية . 
وفي الترمذي  عن النبي  صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ; لأن الله يقول : { إنما يعمر مساجد الله     } الآية    } . قلت : رواه الترمذي  كما قال شيخ الإسلام  من حديث  أبي سعيد الخدري  رضي الله عنه وقال : حديث حسن غريب ، ورواه  ابن ماجه   وابن خزيمة   وابن حبان  في صحيحيهما  والحاكم  من طريق دراج أبي السمح  عن أبي الهيثم  عن  أبي سعيد    . وقال  الحاكم  صحيح الإسناد . 
وفي أوسط  الطبراني  عن  أنس  مرفوعا { أن عمار بيوت الله هم أهل الله عز وجل    } . وفيه عن  أبي سعيد  مرفوعا { من ألف المسجد ألفه    } . 
وأخرج الإمام  أحمد  رضي الله عنه عن  أبي هريرة  رضوان الله عليه عن النبي  صلى الله عليه وسلم قال { إن للمساجد أوتادا الملائكة جلساؤهم ، إن غابوا يفتقدوهم ، وإن مرضوا عادوهم ، وإن كانوا في حاجة أعانوهم   } . 
مطلب : جليس المسجد على ثلاث خصال . 
ثم قال : { جليس المسجد  على ثلاث خصال : أخ مستفاد ، أو كلمة محكمة ، أو رحمة منتظرة    } ورواه  الحاكم  من حديث  عبد الله بن سلام  رضي الله عنه دون قوله جليس المسجد إلى آخره . وقال : صحيح الإسناد على شرطهما . 
 [ ص: 330 ] وأخرج الإمام  أحمد  أيضا عن  معاذ بن جبل  رضي الله عنه أن نبي الله  صلى الله عليه وسلم قال {   : إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم ، يأخذ الشاة القاصية والناحية ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد    } إلى غير ما ذكرنا من الأحاديث الواردة في هذا الباب . 
قال شيخ الإسلام    : فبين أن إقامة الجماعة فيها عمارة لها ، وهذا النهي كله لمن يقتصر في الأمكنة المتحجرة على ما يشرع في المسجد من العبادات وغير ذلك ، فأما إذا فعل فيها المحظورات من الأقوال المحرمة والأفعال المحرمة كمقدمات الفواحش وتناول المنكرات وغير ذلك فلا يستريب مسلم في النهي عن ذلك . 
وإن كانت هذه المقاصير مظنة لهذه المحرمات وقد شهر ذلك كان ذلك بلا ريب موجبا لحسم المادة والمنع من أن يكون في المساجد ما نهى الله عنه ورسوله . 
وليس هذا من باب الحدود التي تتوقف على البينة والإقرار ، بل هو من باب الصيانة والاحتياط والذرائع كاتقاء مواقف التهم { ولقول النبي  صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين رآهما ، وهو مع امرأته صفية  إنها  صفية بنت حيي  ، فقالا سبحان الله يا رسول الله ، فقال إن الشيطان يجري من ابن آدم  مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا    } . 
وكما بلغ  عمر  أن رجلا تجالسه الأحداث فنهى عن مجالسته . 
وكما نفى ( نصر بن الحجاج    ) لما خاف افتتان الناس به . 
وكما نهى عن الخلوة بالأجنبية والسفر بها وأمثال ذلك ، فإن الفعل إذا كان مظنة مفسدة ، ولم يكن هناك مصلحة راجحة فإنه ينهى عنه شرعا ، وعلى ولاة الأمور القيام في ذلك بما أمر الله ورسوله ، والنهي عما نهى الله عنه ورسوله ، وتقلع هذه المقاصير ، كما قلع أمثالها في جامع دمشق  وجامع الحاكم بمصر  وغيرهما ، فإنه كان هناك أمثال هذه المقاصير حتى قلعه من ولاة الأمور من حمده الناس على ذلك ورأوا فعله من أحسن الحسنات وأعظم  [ ص: 331 ] القربات بل من الأفعال الواجبات . 
وإذا قامت فإنها تصرف في مصالح المسجد ، فإن نفعت في عمارته وإلا بيعت وانتفع المسجد بأثمانها . انتهى والله أعلم 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					