فإن قيل : قد ذكرت من صريح الآثار ، وصحيح الأخبار ، ما ينفر عن الحسد ويبعد عنه كل أحد ، لكن الحسد مرض باطني ، فكيف السبيل إلى زواله ؟ فالجواب : أن الآدمي قد جبل على حب الرفعة ، فلا يحب أن يعلو عليه أحد في نعمة من نعم الدنيا ، فإذا علا أحد عليه شق عليه وأحب زوال ما علا به .
ومعالجة ذلك تارة بالزهد في الدنيا ، وأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، فلا وجه للمنافسة فيها عند العقلاء ، وتارة بالرضا بالقضاء ، فإنك إن لم ترض لم تحصل إلا على الندم وفوات الثواب ، وغضب رب الأرباب ، فهما مصيبتان أو أكثر ، وليس للعاقل حيلة في دفع القضاء فعليه بالرضا .
ولذا قلت :
ما لي على مر القضا من حيلة غير الرضا
أنا في الهوى عبد وما للعبد أن يتعرضا
وقد روى رضي الله عنه عن النبي رضي الله سبحانه وتعالى عنه { أبو هريرة ثلاثة لا ينجو منهن أحد : الظن ، والطيرة ، والحسد وسأحدثك بالمخرج من ذلك : إذا ظننت فلا تحقق ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا تطيرت فلا ترجع } أي امض لما قصدت له ولا تصدنك عنه الطيرة .
فالحسد أولا يضر الحاسد في الدين والدنيا ، ولا يستضر بذلك المحسود ، فلا تؤذ نفسك .
أما ضرره في الدين فإن الحاسد قد سخط قضاء الله - تعالى - فكره نعمته على عباده ، وهذا قذى في بصر الإيمان ، ويكفيه أنه شارك إبليس في الحسد وفارق الأنبياء في حبهم الخير لكل أحد .
ثم إن الحسد يحمل على إطلاق اللسان في المحسود بالشتم والتحيل على أذاه .
وأما ضرره في الدنيا فإن الحاسد يتألم ولا يزال في كمد .
وأنشدوا :
دع الحسود وما يلقاه من كمده كفاك منه لهيب النار في جسده
إن لمت ذا حسد نفست كربته وإن سكت فقد عذبته بيده
فإن قيل : هل للحاسد دواء ؟ فالجواب : قل أن ينجع فيه دواء لأنه جهول ظلوم وليس يشفي علة صدره ويزيل حزازة الحسد من قلبه إلا زوال النعمة ، فحينئذ يتعذر الدواء أو يعز .
ومن هذا قول بعضهم وأحسن :
وكل أداويه على قدر دائه سوى حاسدي فهي التي لا أنالها
وكيف يداوي المرء حاسد نعمة إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
ثم اعلم أنك إنما تحسد إخوانك على الدنيا وحطامها ، وأما قوام الليل وصوام النهار فلا أراك تحسدهم .
فبالله عليك اعرف قدر الدنيا واعلم أنها [ ص: 286 ] هموم متراكمة ، وغموم متلاطمة ، وحساب وعذاب ، وهي خرق وتراب ، وصور وخراب .
فرحم الله امرأ عرف نفسه ، وعرف الدنيا وعمل على مقتضى كل بحسبه .
والله سبحانه وتعالى المسئول ، أن يقذف في قلوبنا من النور .
ما يزول به الديجور ، ونشاهد حقائق الأمور ، على حسب ما يرضي الغفور ، إنه جواد كريم ، رءوف رحيم .