مطلب : في ذكر الخلاف في حظر الغناء وإباحته : وحظر الغناء الأكثرون قضوا به وعن أبوي بكر إمام ومقتد ( وحظر ) أي بالمد ( الأكثرون ) من علمائنا وغيرهم ، ومراده من أصحابنا ( قضوا ) أي حكموا ( به ) أي بحظره وحرمته لأنه ينبت في القلب النفاق . منع ( الغناء )
[ ص: 153 ] قال رضي الله عنهما : سألت أبي عن الغناء فقال الغناء ينبت النفاق في القلب ، وقال لا يعجبني . ثم ذكر قول الإمام عبد الله بن الإمام رحمه الله ورضي عنه إنما يفعله عندنا الفساق . مالك
قال عبد الله وسمعت أبي يقول سمعت يقول : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل يحيى القطان الكوفة في النبيذ ، وقول أهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا . وقال سليمان التيمي : لو أخذت برخصة كل عالم وزلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله .
قال الإمام المحقق ابن القيم في إغاثة اللهفان : قد تواتر عن الإمام رضي الله عنه أنه قال : خلفت الشافعي ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن . فإذا كان هذا قول في التغبير وتعليله له أنه يصد عن القرآن وهو شعر مزهد في الدنيا يغني به مغن ويضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو حجرة على توقيع غناء ، فليت شعري ما يقول في سماع التغبير عنده كتفلة في بحر - قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم . فالله بين دينه ، وبين كل متعلم مفتون ، وعابد جاهل . الشافعي
قال : كان يقال : احذروا فتنة العالم الفاجر ، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون . وقد روى سفيان بن عيينة عن علي بن الجعد محمد بن طلحة عن سعيد بن كعب المروزي عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن رضي الله عنه أنه قال : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع ، والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع . ابن مسعود
قال في إغاثة اللهفان : وهو صحيح عن من قوله . وقد روي مرفوعا رواه ابن مسعود في كتاب ذم الملاهي ولفظه بعد سياق السند عن ابن أبي الدنيا رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ابن مسعود } والموقوف أصح . الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل
قال بعض العارفين : السماع يورث النفاق في قوم ، والخنا في قوم ، والكذب في قوم ، والفجور في قوم ، والرعونة في قوم ، وأكثر ما يورث عشق الصور واستحسان الفواحش ، وإدمانه يثقل القرآن على القلب [ ص: 154 ] ويكرهه إلى استماعه بالخاصة ، وهذا عين النفاق بالاتفاق . وذلك لأن الغناء قرآن الشيطان فلا يجتمع مع قرآن الرحمن في قلب واحد أبدا ، ولهذا كان الغناء ينبت النفاق في القلب .
وأيضا أساس النفاق أن يخالف الظاهر الباطن ، وهذا المستمع الغناء لا يخلو أن ينتهك المحارم فيكون فاجرا أو يظهر النسك والعبادة فيكون منافقا فإنه متى أظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات ويلذع بنغمات الآلات ومحبة ما يكره الله ورسوله من أصوات المعازف وما يدعو إليه الغناء وبهيجه من قلبه كان من أعظم الناس نفاقا ، فإن هذا محض النفاق .
وقد كتب الإمام رضي الله عنه لمؤدب ولده : ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدوها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء ذكره الإمام عمر بن عبد العزيز ابن القيم .
قال في الإنصاف والفروع وغيرهما : قال جماعة : يحرم الغناء . قال في الترغيب : اختاره الأكثر كما أشار إليه الناظم . قال الإمام : لا يعجبني وقال في الوصي يبيع أمة الصبي على أنها غير مغنية وعلى أنها لا تقرأ بالألحان . أحمد
( وعن ) الإمامين الكبيرين ( أبوي بكر إمام ) بدل من أبوي بكر وأراد به الإمام الأوحد والهمام الأمجد أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى ورضي عنه ، له التصانيف الدائرة ، والكتب السائرة ، والنظر الناقد ، والخاطر الواقد ، فمن تصانيفه الجامع الذي دار بلاد الإسلام حتى جمعه ، والعلل ، والسنة ، والعلم ، والطبقات ، وتفسير الغريب ، والأدب ، وأخلاق الإمام رضي الله عنه وغير ذلك . سمع أحمد الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وطبقتهم ، وصحب ومحمد بن عوف الحمصي إلى أن مات ، وسمع جماعة من أصحاب الإمام أبا بكر المروذي رضي الله عنه وعنهم ، منهم غير أحمد المروذي صالح وعبد الله ابنا الإمام رضي الله عنهما ، ، وإبراهيم الحربي ، والميموني وبدر المغازلي ، وأبو يحيى الناقد ، ، وحنبل وحرب الكرماني ، وأبو زرعة ، وخلق سواهم ، سمع منهم مسائل الأمام [ ص: 155 ] ورحل إلى أقاصي البلاد في جمعها وسماعها ممن سمعها من الإمام أحمد ، وممن سمعها ممن سمعها منه ، شهد له شيوخ المذهب بالفضل والتقدم ، حدث عنه جماعة ، منهم أحمد محمد بن المظفر ، ومحمد بن يوسف الصيرفي ، وخلق كثير ، وكانت له حلقة بجامع المهدي . توفي رضي الله عنه يوم الجمعة لليلتين خلتا من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشر وثلاثمائة ، ودفن إلى جنب قبر المروذي عند رجلي الإمام رضي الله عنهم . أحمد
( ومقتد ) بالجر عطف على إمام أي تابع ومقلد وحذا حذو متبوعه ، وهو أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف المعروف بغلام الخلال ، حدث عن ، محمد بن عثمان بن أبي شيبة وموسى بن هارون ومحمد بن الفضل الوصيفي ، وأبي خليفة الفضل بن الحباب البصري ، والحسين بن عبد الله الخرقي ، وأبي قاسم البغوي ، وآخرين ، وأخذ عنه عالم من العلماء ، منهم ابن شاقلا ، ، وأبو عبد الله بن بطة ، وأبو الحسن بن التميمي وأبو حفص البرمكي ، والعكبري ، وأبو عبد الله بن حامد . كان أبو بكر عبد العزيز أحد أهل الفهم موثوقا به في العلم ، متسع الرواية ، متين الدراية ، مشهورا بالديانة ، موصوفا بالأمانة ، مذكورا بالعبادة والعفة والصيانة ، له المصنفات في العلوم المختلفات ، كالشافي ، والمقنع ، وتفسير القرآن ، والخلاف مع ، وكتاب القولين ، وزاد المسافر والتنبيه ، وغير ذلك ، وذكره الإمام القاضي الشافعي أبو يعلى ، ووصفه بالدين والورع والعلم والبراعة ، وكان له قدم راسخ في تفسير القرآن ومعرفة معانيه . روي أن رافضيا سأله عن قوله تعالى { والذي جاء بالصدق وصدق به } من هو ؟ قال : ، فرد عليه وقال بل هو أبو بكر الصديق ، فهم به الأصحاب ، فقال دعوه ، ثم قال اقرأ ما بعدها { علي لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا } وهذا يقتضي أن يكون هذا المصدق ممن له سيئات سبقت ، وعلى قولك أيها السائل لم يكن سيئات ، فقطعه . وهذا استنباط حسن إنما يعقله أهل العلم واللسان . فدل على علمه وحلمه وحسن خلقه ، فإنه لم يقابل السائل على جفائه وعدل إلى العلم ، وهذا دأب أهل العلم والفهم . توفي رضي الله عنه يوم الجمعة بعد الصلاة لعشر بقين من [ ص: 156 ] شوال سنة ثلاث وستين وثلاثمائة . روي عنه أنه قال : أنا عندكم ليوم الجمعة وذلك في علته ، فقيل له يعافيك الله أو كلاما هذا معناه فقال سمعت لعلي سمعت أبا بكر الخلال يقول : عاش الإمام أبا بكر المروذي ثمانيا وسبعين سنة ، ومات يوم الجمعة ، ودفن بعد الصلاة ، وعاش أحمد بن حنبل ثمانيا وسبعين سنة ، ومات يوم الجمعة ، ودفن بعد الصلاة ، وأنا عندكم إلى يوم الجمعة ، ولي ثمان وسبعون سنة فلما كان يوم الجمعة مات ودفن بعد الصلاة ، وهو من غريب الاتفاق ، ونظيره سيد العالم عاش ثلاثا وستين ، أبو بكر الخلال وأبو بكر عاش ثلاثا وستين ، عاش ثلاثا وستين ، وعمر عاش ثلاثا وستين ، وهذا من غريب الاتفاق . فهذان الإمامان اللذان هما وعلي وغلامه يروى عنهما . الخلال