الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 610 ] المسألة الثالثة: وقف الكلب الذي يباح اقتناؤه:

        المقصود به : ما جاء في الشرع جواز الانتفاع فيه، ولم يجز المعاوضة عليه.

        وهو كلب الصيد، أو الحرث، أو الماشية.

        وقد اختلف الفقهاء في حكم وقفه على قولين:

        القول الأول: يجوز وقف الكلب المعلم.

        وهو قول المالكية، وقول للشافعية مخرج من جواز إجارته، وقول للحنابلة مخرج من جواز إعارته.

        وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث جاء في الاختيارات: « ويصح وقف الكلب المعلم ».

        القول الثاني: لا يجوز وقفه.

        وهذا هو مقتضى قول الحنفية حيث قالوا: بعدم جواز وقف المنقول الذي ينتفع به مع بقاء عينه.

        وبه قال الشافعية في الأصح عندهم، وهو القول الصحيح من المذهب عند الحنابلة [ ص: 611 ] الأدلة:

        استدل القائلون بجواز وقف الكلب المعلم بما يلي:

        1 - عموم أدلة الوقف.

        وهذه تشمل وقف الكلب.

        2 - الأدلة الدالة على شرعية وقف المنافع.

        ويدخل في هذا منفعة الكلب.

        3 - ما تقدم من الأدلة على جواز وقف المختصات.

        (175) 4 - ما رواه النسائي من طريق حجاج بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نهى عن ثمن الكلب والسنور، إلا كلب صيد ».

        (منكر) . [ ص: 612 ]

        (176) 5 - ما رواه الترمذي من طريق حماد بن سلمة، عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد ».

        وجه الدلالة من الحديثين : أنهما دالان على جواز بيع الكلب المعلم، وإذا جاز البيع جاز الوقف.

        1 - أن الشارع أذن في الانتفاع به، ومقتضى ذلك جواز وقفه .

        2 - القياس على الإجارة، فكما تجوز إجارة الكلب المعلم يجوز وقفه.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الأصل المقيس عليه موضع خلاف بين أهل العلم، فأكثرهم على عدم الجواز.

        8 - القياس على الإعارة، فكما تجوز إعارته يجوز وقفه.

        أدلة الرأي الثاني:

        استدل لهذا الرأي بما يلي:

        (177) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن ابن شهاب، [ ص: 613 ] عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن ».

        وجه الدلالة : أن الشارع نهى عن بيعه، فدل على عدم جواز وقفه.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول : بالفرق بين عقود التبرعات والمعاوضات؛ إذ إن عقود التبرعات أوسع كما سبق.

        الوجه الثاني: أنه لا يلزم من عدم جواز البيع عدم جواز الوقف ؛ إذ إن ضابط ما يصح وقفه هو كل ما تصح إعارته، كما سبق تقريره.

        2 - أن الانتفاع بالكلب خلاف الأصل للضرورة، فلم يجز التوسع فيها.

        ونوقش هذا الاستدلال : بأن هذه دعوى تحتاج إلى دليل.

        وقوله: « فلم يجز التوسع فيها » استدلال في محل النزاع.

        3 - القياس على البيع، بجامع نقل الملكية في كل منهما، فكما أنه لا يجوز بيعه لا يجوز وقفه.

        يناقش هذا الدليل من وجهين :

        الأول: أن من الفقهاء من يرى جواز بيعه كالحنفية، والإمام مالك في رواية، ويخص النهي عنه بغير المعلم منها ، فليس الأمر محل اتفاق. [ ص: 614 ]

        الثاني: مع التسليم بعدم جواز بيعه، فإن المانع من البيع هو المعاوضة على العين، ولا معاوضة عليها في الوقف، فيكون قياسا مع الفارق.

        4 - أن الكلب ليس بمال مملوك للواقف، فلا يجوز وقفه.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أنه يسلم أنه ليس مالا ، بل هو مختص، والمختصات يختص بها صاحبها، فصح التبرع بمنفعتها.

        الوجه الثاني : أن الوقف ليس فيه تمليك للعين الموقوفة حتى يتطلب الملكية السابقة، وإنما المقصود منه تسبيل المنفعة، وهي موجودة في الكلب المعلم.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - مشروعية وقف الكلب المعلم؛ لقوة دليله، ولأن الأصل شرعية الوقف، والإكثار منه ؛ إذ هو قربة، فلا يمنع منه إلا بدليل.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية