الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 99 ] قال ( وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به ) لأنه فوض إليه التصرف دون التوكيل به ، وهذا لأنه رضي برأيه والناس متفاوتون في الآراء [ ص: 100 ] قال ( إلا أن يأذن له الموكل ) لوجود الرضا ( أو يقول له اعمل برأيك ) لإطلاق التفويض إلى رأيه ، وإذا جاز في هذا الوجه يكون الثاني وكيلا عن الموكل حتى لا يملك الأول عزله ولا ينعزل بموته وينعزلان بموت الأول ، وقد مر نظيره في أدب القاضي .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به ، لأنه ) أي الموكل ( فوض إليه ) أي إلى الوكيل ( التصرف ) أي التصرف الذي وكل به ( دون التوكيل به ) أي لم يفوض إليه التوكيل بذلك التصرف فلا يملكه ( وهذا ) أي عدم جواز توكيل الوكيل فيما وكل به ( لأنه ) أي لعلة أن الموكل ( رضي برأيه ) أي برأي الوكيل ( والناس متفاوتون في الآراء ) فلا يكون الرضا برأيه رضا برأي غيره فيكون الوكيل في توكيل الغير مباشرا غير ما أمر به الموكل ولا تجوز .

قال صاحب العناية : وفيه تشكيك ، وهو أن تفاوت الآراء مدرك بيقين وإلا لما جاز التعليل به ، فجاز أن يكون الوكيل الثاني أقوى من الأول . وأيضا الرضا برأي الوكيل ورد توكيله تناقض ، لأن الوكيل الثاني لو لم يكن أقوى رأيا أو قويه في رأي الأول لما وكله فرد توكيله مع الرضا برأيه مما لا يجتمعان . ويمكن أن يجاب عنه بأن العبرة في القوة في الرأي لما يكون بحسب ظن الموكل ، وحيث اختاره للتوكيل من بين من يعرفه بالرأي والتصرف في الأمور ولم يأذن له بالتوكيل كان الظاهر من حاله أنه ظن أن لا ثمة من يفوقه في هذا التصرف ، فقبول توكيله حينئذ مناقض لظنه فلا يجوز انتهى . أقول : الجواب الذي ذكره إنما يدفع الوجه الأول من التشكيك المذكور دون الوجه الثاني منه ، لأن قبول توكيل الأول وإن كان مناقضا لظن الموكل ، إلا أن رد توكيله أيضا مناقض لرضا الموكل برأي الوكيل كما ذكره في الوجه الثاني منه ، فما الرجحان في إيثار هذا التناقض على ذاك التناقض ؟ ثم أقول في الجواب عن الوجه الثاني منه : إن الموكل إنما رضي برأي الوكيل في تصرف خاص وهو ما وكل به من البيع أو الشراء أو الإجارة أو نحو ذلك ، والتوكيل ليس بداخل في ذلك التصرف فلا تناقض في رد توكيله ، وإنما يصير ذلك تناقضا لو كان رضا الموكل برأي الوكيل في التوكيل أو برأيه مطلقا ، ولهذا إذا أذن له الموكل في التوكيل أو قال له اعمل برأيك يجوز توكيله كما سيأتي .

واعترض بعض الفضلاء على قول المصنف لأنه رضي برأيه والناس متفاوتون في الآراء بأن الدليل خاص بما يحتاج إلى الرأي والمدعى عام لغيره أيضا . أقول : أصل الدليل أنه رضي بفعله دون فعل غيره ، والناس متفاوتون في الأفعال [ ص: 100 ] فيعم ما يعمه المدعى ، إلا أنه أخرج الكلام مخرج الغالب فقال : لأنه رضي برأيه والناس متفاوتون في الآراء ( قال ) أي القدوري في مختصره ( إلا أن يأذن له الموكل ) استثناء من قوله وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به ، فإنه إذا أذن له في ذلك يجوز أن يوكل غيره ( لوجود الرضا ) أي لوجود الرضا حينئذ برأي غيره أيضا ( أو يقول له ) عطف على يأذن له الموكل : أي أو إلا أن يقول للوكيل ( اعمل برأيك ) فيجوز أيضا أن يوكل غيره ( لإطلاق التفويض إلى رأيه ) أي إلى رأي الوكيل فيدخل توكيله الغير تحت الإجازة .

قال المصنف ( وإذا جاز في هذا الوجه ) أي إذا جاز توكيل الوكيل غيره في هذا الوجه الذي يجوز التوكيل فيه وذلك بأن يأذن له الموكل أو يقول له اعمل برأيك فوكل غيره ( يكون الثاني ) أي الوكيل الثاني وهو وكيل الوكيل ( وكيلا عن الموكل ) لا عن الوكيل الأول ( حتى لا يملك الأول ) أي الوكيل الأول ( عزله ) أي عزل الوكيل الثاني ( ولا ينعزل ) أي الوكيل الثاني ( بموته ) أي بموت الوكيل الأول ( وينعزلان ) أي الوكيل الأول والوكيل الثاني ( بموت الأول ) أي بموت الموكل الأول ( وقد مر نظيره في أدب القاضي ) وهو ما ذكره في فصل آخر قبل باب التحكيم بقوله وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء إلا أن يفوض إليه ذلك ، إلى أن قال : وإذا فوض إليه يملكه فيصير الثاني نائبا عن الأصل حتى لا يملك الأول عزله . أقول : والعجب من الشراح هاهنا سيما من فحولهم كصاحب العناية وصاحب غاية البيان وصاحب معراج الدراية أنهم قالوا في بيان ما مر نظيره في أدب القاضي وهو ما ذكره هناك بقوله وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء إلا أن يفوض إليه ذلك ، إلى أن قال : ولو قضى الثاني بمحضر من الأول أو قضى الثاني فأجازه الأول جاز كما في الوكالة ، فحققوا [ ص: 101 ] الكلام في قوله كما في الوكالة مع أن نظير ما ذكره المصنف هنا إنما هو ما تركوه ، وهو قوله هناك بعد ذكر ما ذكروه : وإذا فوض إليه يملكه يصير الثاني نائبا عن الأصل حتى لا يملك الأول عزله ، وكأنهم إنما اغتروا بما في قوله كما في الوكالة من التشبيه بالوكالة ، لكن مراده بذلك إنما هو التشبيه بما سيأتي من أنه إن وكل بغير إذن موكله فعقد وكيله بحضرته جاز لا التشبيه بما نحن فيه كما لا يخفى .

بقي هاهنا بحث ، وهو أن قول المصنف حتى لا يملك الأول عزله ظاهر في صورة أن يأذن له الموكل في التوكيل لأن الإذن له في ذلك لا يقتضي الإذن له في العزل أيضا ، وأما في صورة أن يقول له اعمل برأيك فهو مشكل لأنهم صرحوا بأن قوله اعمل برأيك توكيل عام فيدخل في عمومه توكيل الوكيل غيره ، وأنه إثبات صفة المالكية للوكيل فيملك توكيل غيره كالمالك ، فحينئذ ينبغي أن يملك الوكيل الأول عزل الوكيل الثاني أيضا بعموم وكالته عن الموكل الأول ، وبكونه كالمالك بإثبات صفة المالكية له ، كما أن للقاضي أن يستخلف على القضاء وأن يعزل عنه إذا فوض إليه النصب والعزل من قبل الخليفة على ما عرف في محله .

ويؤيد هذا ما ذكره الإمام قاضي خان في فتاواه حيث قال : رجل وكل رجلا بالخصومة وقال له ما صنعت من شيء فهو جائز فوكل الوكيل بذلك غيره جاز توكيله ، ويكون الوكيل الثاني وكيل الموكل الأول لا وكيل الوكيل ، حتى لو مات الوكيل الأول أو عزل أو جن أو ارتد أو لحق بدار الحرب لا ينعزل الوكيل الثاني ; ولو مات الموكل الأول أو جن أو ارتد أو لحق بدار الحرب ينعزل الوكيلان ، ولو عزل الوكيل الأول الوكيل الثاني جاز عزله لأن الموكل الأول رضي بصنيع الأول وعزل الأول الثاني من صنيع الأول ، إلى هاهنا كلامه . ولا يخفى أن الموكل الأول فيما نحن فيه أيضا رضي بعمل الوكيل الأول برأيه ، وأن عزل الوكيل الأول الثاني من عمله برأيه فينبغي أن يجوز عزله إياه . والفرق بينهما مشكل دونه خرط القتاد




الخدمات العلمية