الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( ولو ادعيا الشراء من واحد ) معناه من غير صاحب اليد [ ص: 259 ] وأقاما البينة على تاريخين فالأول أولى ) لما بينا أنه أثبته في وقت لا منازع له فيه ( وإن أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من آخر وذكرا تاريخا ) فهما سواء [ ص: 260 ] لأنهما يثبتان الملك لبائعيهما فيصير كأنهما حضرا ثم يخير كل واحد منهما كما ذكرنا من قبل ( ولووقتت إحدى البينتين وقتا ولم تؤقت الأخرى قضى بينهما نصفين ) لأن توقيت إحداهما لا يدل على تقدم الملك [ ص: 261 ] لجواز أن يكون الآخر أقدم ، بخلاف ما إذا كان البائع واحدا لأنهما اتفقا على أن الملك لا يتلقى إلا من جهته ، فإذا أثبت أحدهما تاريخا يحكم به حتى يتبين أنه تقدم شراء غيره .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( ولو ادعيا الشراء من واحد ) قال المصنف ( معناه من غير صاحب اليد ) أي معنى قوله من واحد من غير صاحب اليد . قال صاحب النهاية : ليس في تقييده بقوله معناه من غير صاحب اليد زيادة فائدة ، فإن في هذا الحكم المترتب عليه وفي سائر الأحكام لا يتفاوت أن يكون دعواهما الشراء من صاحب اليد أو من غيره بعد أن يكون البائع واحدا لأنه ذكر في الذخيرة : دار في يد رجل ادعاها رجلان كل واحد منهما يدعي أنه اشتراها من صاحب اليد بكذا ، فإن أرخا وتاريخهما على السواء أو لم يؤرخا فالدار بينهما نصفان لأنهما استويا في الدعوى والحجة ، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فالسابق أولى ; لأنه أثبت شراءه في وقت لا ينازعه فيه أحد فيثبت شراؤه من ذلك الوقت ، ويتبين أن الآخر اشتراها من غير المالك . وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر فالمؤرخ أولى تقليلا لنقص ما هو ثابت ; لأنا إذا جعلنا المؤرخ أولى فقد نقضنا شراء الآخر لا غير . وأما إذا قضينا للذي لا تاريخ له لنقضنا على صاحب التاريخ شراءه وتاريخه بعدما ثبت الأمران [ ص: 259 ] بالبينة ، وإذا ادعى الخارجان تلقي الملك من واحد آخر بأن ادعى رجل أنه اشترى هذه الدار من فلان بكذا سمى رجلا وجاء رجل آخر وادعى أنه اشترى هذه الدار من فلان ذلك بعينه ، فإن لم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على السواء يقضي بالدار بينهما ، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يقضي لأسبقهما تاريخا ، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر فالمؤرخ أولى لما قلنا انتهى .

وقد اقتفى أكثر الشراح أثر صاحب النهاية في مؤاخذة المصنف هاهنا بالوجه المذكور . وقال صاحب الكفاية : قيد بقوله معناه من غير صاحب اليد كي لا يلزم التكرار ، لأنه قال أولا : ولو ادعى اثنان كل واحد منهما أنه اشترى منه هذا العبد معناه من صاحب اليد ، ورتب عليه الأحكام وذكر من جملتها هذا الحكم المذكور هنا ، فيثبت بذلك أنه لا فرق بين أن يدعيا الشراء من صاحب اليد أو من غيره في هذا الحكم انتهى . أقول : الحق ما قاله صاحب الكفاية . وتوضيحه أن الإمام القدوري لما ذكر هذا الحكم في مختصره مرتين إحداهما هاهنا والأخرى في أثناء الأحكام المتشعبة من قوله فيما مر ولو ادعى اثنان كل واحد منهما أنه اشترى منه حيث قال هناك : ولو ذكر كل واحد منهما تاريخا فهو للأول منهما فهم التكرار من كلامه في الظاهر فصرف المصنف قوله الأول إلى ما إذا ادعيا من صاحب اليد ، وقوله الثاني ما إذا ادعيا من غير صاحب اليد احترازا عن التكرار على ما يقتضيه حمل المؤمن على الصلاح فلا غبار فيه أصلا .

والعجب ممن طعنوا فيه أنهم قالوا بصدد شرح قول المصنف فيما مر معناه من صاحب اليد ، إنما قيد به لأن كل واحد منهما لو ادعى الشراء من غير صاحب اليد فهو لا يخلو إما أن ادعيا الشراء من واحد أو اثنين ، فالحكم على التفصيل يجيء بعد هذا في الكتاب انتهى ، وذلك الكلام منهم اعترافا بأن معنى قوله هاهنا ولو ادعيا الشراء من واحد ادعياه من غير صاحب اليد ، إذ لا يجيء في الكتاب مسألة إن ادعيا الشراء من واحد غير قوله هذا ، وبأن فائدة التقييد هناك الاحتراز عن التكرار فكيف لم يتنبهوا لكون فائدة التقييد هاهنا أيضا الاحتراز عن التكرار ( وأقاما البينة على تاريخين ) هذا من تتمة ما سبق : أي لو ادعيا الشراء من واحد غير صاحب اليد وأقاما البينة على تاريخين ( فالأول أولى ) أي فصاحب التاريخ الأول أولى ( لما بينا ) أي في مسألة إن ادعيا الشراء من صاحب اليد ( أنه أثبته ) أي أن صاحب التاريخ الأول أثبت الشراء ( في وقت لا منازع له فيه ) أي في ذلك الوقت فاندفع الآخر به ( وإن أقاما كل واحد منهما البينة على الشراء من آخر ) كأن أقام أحدهما البينة على الشراء من زيد والآخر على الشراء من عمرو ( وذكرا تاريخهما فهما سواء ) قال صاحب النهاية ومعراج الدراية : أي ذكرا تاريخا واحدا ، وأما لو ذكرا تاريخين فالسابق أولى لإثبات الملك لبائعه في وقت لا ينازعه الآخر فيه ويرجع الآخر بالثمن على بائعه لاستحقاق المبيع من يده ، كذا في المبسوط انتهى .

وقد سلك صاحب العناية مسلكهما في شرح المقام حيث قال : وذكرا تاريخا واحدا فهما سواء انتهى . وقال صاحب الكفاية أخذا من الكافي : أي سواء كان تاريخهما واحدا أو كان أحدهما أسبق تاريخا فهما سواء ; لأنهما يثبتان الملك لبائعهما ولا تاريخ لملك البائعين فيصير كأنهما حضرا [ ص: 260 ] وأقاما البينة على الملك بدون التاريخ كان الملك بينهما ، فكذا فيمن تلقى الملك منهما ، بخلاف ما إذا ادعيا الشراء من واحد معين لأنهما اتفقا أن الملك كان له ، وإنما يختلفان في التلقي منه وأسبقهما تاريخا ، أثبت التلقي لنفسه في زمان لا ينازعه فيه صاحبه فيقضى له بذلك ، ولا يقضى للغير بعد ذلك إلا إذا ادعى التلقي منه والآخر لا يدعي التلقي منه انتهى .

وقد سلك الإمام الزيلعي هذا المسلك في شرح هذا المقام من الكنز . أقول : السر في اختلاف كلمات الثقات من شراح هذا الكتاب وغيره في حل هذه المسألة هو اختلاف الروايتين عن المجتهدين فيما إذا ادعيا الشراء من اثنين وكان أحدهما أسبق تاريخا كما صرح به في معتبرات الفتاوى حيث قال في فتاوى قاضي خان : وإن ادعيا الشراء كل واحد منهما من رجل آخر أنه اشتراها من فلان وهو يملكها وأقام آخر البينة أنه اشتراها من فلان آخر وهو يملكها فإن القاضي يقضي بينهما ، وإن وقتا فصاحب الوقت الأول أولى في ظاهر الرواية ، وعن محمد أنه لا يعتبر التاريخ ، وإن أرخ أحدهما دون الآخر يقضي بينهما اتفاقا انتهى . وقال في البدائع : أما إذا ادعيا الشراء من اثنين سوى صاحب اليد مطلقا من الوقت وأقاما البينة على ذلك يقضى بينهما في نصفين ، وإن كان وقتهما واحدا فكذلك ، وإن كان أحدهما أسبق من الآخر فالأسبق تاريخا أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وكذا عند محمد في رواية الأصول ، بخلاف الميراث فإنه يكون بينهما نصفين عنده . وعن محمد في الإملاء : أنه سوى بين الميراث وبين الشراء ، وقال : لا عبرة بالتاريخ في الشراء أيضا إلا أن يؤرخا ملك البائعين انتهى .

وذكر في الذخيرة أيضا كذلك مع نوع تفصيل وكذا في غيرها . ثم أقول : الذي يظهر من نقل تلك المعتبرات أن كون صاحب التاريخ الأسبق أولى فيما إذا ادعيا الشراء من اثنين ظاهر الرواية ، وأنه قول أكثر المجتهدين وأكبرهم ، فحمل مسألة الكتاب على ما لا ينافيه أولى كما لا يخفى .

قال المصنف في تعليل المسألة المذكورة ( لأنهما يثبتان الملك لبائعهما فيصير كأنهما حضرا ) أي فيصير كأن البائعين حضرا وادعيا وأرخا تاريخا واحدا ( ثم يتخير كل واحد منهما كما ذكرنا من قبل ) أي من أن كل واحد منهما بالخيار ، إن شاء أخذ نصف العبد بنصف الثمن ، وإن شاء ترك ( ولو وقتت إحدى البينتين وقتا ولم تؤقت الأخرى قضى بينهما نصفين ) يعني إذا ادعى الخارجان شراء كل واحد من رجل آخر وأقاما البينة ووقتت إحدى البينتين دون الأخرى قضى بينهما نصفين ( لأن توقيت إحداهما لا يدل على تقدم الملك ) أي على تقدم ملك بائعه : يعني أن كل واحد من المدعيين هاهنا خصم عن بائعه في إثبات الملك له ، وتوقيت إحداهما لا يدل على تقدم [ ص: 261 ] ملك بائعه ( لجواز أن يكون الآخر أقدم ) أي لجواز أن يكون البائع الآخر أقدم في الملك ( بخلاف ما إذا كان البائع واحدا لأنهما ) أي المدعيين ( اتفقا ) في هذه الصورة ( على أن الملك لا يتلقى ) أي لا يؤخذ ( إلا من جهته ) أي من جهة البائع الواحد ، فحاجة كل واحد منهما إلى إثبات سبب الانتقال إليه وهو الشراء لا إلى إثبات الملك للبائع ( فإذا أثبت أحدهما تاريخا يحكم به حتى يتبين أنه تقدمه شراء غيره ) قال صاحب العناية : لأن الثابت بالبينة كالثابت عيانا ، ولو عاينا بيده الملك حكمنا به فكذا إذا ثبت بالبينة إلا إذا تبين أنه تقدم عليه شراء غيره انتهى .

أقول : فيه نظر ; لأن الكلام في توقيت إحدى البينتين لا في إثباتها اليد فلا يلزم من كون الثابت بالبينة المؤقتة كالملك الثابت المعاين باليد فلا تعلق لقوله ولو عاينا بيده الملك حكمنا به بالمقام ، وإنما اللازم من كون الثابت بالبينة كالثابت عيانا أن يكون شراء من وقتت بينته كالشراء المعاين لثبوته بالبينة ، ولكن الآخر مشترك في هذا اللازم لثبوت شرائه أيضا بالبينة . نعم بينهما فرق من حيث إن الأول يصير بمنزلة من عاينا شراءه ووقته معلوم متعين عندنا الآن . والثاني يصير بمنزلة من عاينا شراءه أيضا ولكن وقته غير معلوم عندنا الآن ، بل محتمل للتقدم على الآخر والتأخر عنه ، إلا أن هذا الفرق لا يجدي نفعا ، إذ الظاهر أنا لا نحكم في هذه الصورة أيضا لصاحب الوقت المعين ما لم نعرف أنه أسبق من الآخر . فالوجه في تعليل كلام المصنف هاهنا أن يقال : لأن الشراء أمر حادث ، والحادث يضاف إلى أقرب الأوقات ما لم يتبين وقته على ما هو القاعدة المقررة عندهم ، فشراء غير المؤقت يضاف إلى أقرب الأوقات وهو الحال فيتأخر عن شراء المؤقت حكما ، وقد أشير إلى هذا الوجه هاهنا إجمالا في غاية البيان وشرح تاج الشريعة ، ومر منا تفصيل نظيره فيما سبق نقلا عن الكافي فتذكر . ثم قال صاحب العناية : ولقائل أن يقول : حاصل الفرق بين المسألتين ما ذكر من قوله لأنهما اتفقا على أن الملك لا يتلقى إلا من جهته .

وأما الباقي فمشترك بين المسألتين ، وذلك لا مدخل له في الفرق لجواز أن يقال : من ثبت له الملك بالبينة فهو كمن ثبت له عيانا فيحكم به ، إلا إذا تبين تقدم شراء غيره . والجواب أن لذلك مدخلا في الفرق لأن البائع إذا كان واحدا كان التعاقب ضروريا . وقد ثبت لأحدهما بالبينة ملك في وقت وملك غيره مشكوك إن تأخر لم يضر وإن تقدم ملك فتعارضا فيرجع بالوقت . وأما إذا كان متعددا فكما جاز أن يقعا متعاقبين جاز أن يقعا معا ، وفي ذلك تعارض أيضا فضعف قوة الوقت عن الترجيع لتضاعف التفاوض انتهى .

أقول : في الجواب بحث ، أما أولا فلأن قوله : لأن البائع إذا كان واحدا كان التعاقب ضروريا ممنوع لجواز أن يوكل واحد رجلين ببيع عبده مثلا فيبيع كل واحد منهما من رجل في وقت واحد . وعقد الوكيل كعقد الموكل فيضاف عقده إلى الموكل مجازا كما ذكرنا فيما مر نقلا عن الكافي وعامة الشراح لدفع السؤال بتيقن كذب إحدى البينتين . وأما ثانيا فلأن قوله : فيرجح بالوقت غير تام لأن الشك في ملك غير المؤقت يستلزم الشك في ملك المؤقت لأن تقدم أحدهما على الآخر يستلزم تأخر الآخر عنه وكذا تأخره عن الآخر يستلزم تقدم الآخر عليه فاحتمال تقدم أحدهما على الآخر وتأخره عنه وهو سبب الشك في ملكه يستلزم احتمال تقدم الآخر عليه وتأخره عنه فيلزم الشك في ملكه أيضا ولا شك أن الوقت من حيث هو وقت لا مدخل له في ترجيح الملك لأحدهما ، بل إنما يتصور الترجيح به لتقدمه على وقت الآخر ، فإذا [ ص: 262 ] كان هذا مشكوكا فلا مجال للترجيح به أصلا . وأما ثالثا فلأن قوله : فضعف قوة الوقت عن الترجيح لتضاعف التعارض غير معقول ; لأن التعارض متى تضاعف لا يزيد شيئا على التساوي والتساقط ، فما يصلح للترجيح في مرتبة من التعارض ينبغي أن يصلح له في سائر المراتب منه ، ولعمري إن صاحب العناية قد تصنع في حل هذا المقام زيادة على سائر الشراح ولكن ما أتى بشيء يعتد به كما عرفت ، وإن فيما ذكرنا من الوجه في تعليل كلام المصنف هاهنا لمندوحة عن جميع ما ذكره فتفكر




الخدمات العلمية