الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق [ ص: 174 ] وبينة الخارج أولى ) [ ص: 175 ] وقال الشافعي : يقضى ببينة ذي اليد لاعتضادها باليد فيتقوى الظهور وصار كالنتاج والنكاح ودعوى الملك مع الإعتاق والاستيلاد والتدبير . ولنا أن بينة الخارج أكثر إثباتا أو إظهارا لأن قدر ما أثبتته اليد لا يثبته بينة ذي اليد ، إذ اليد دليل مطلق الملك [ ص: 176 ] بخلاف النتاج لأن اليد لا تدل عليه ، وكذا على الإعتاق وأختيه وعلى الولاء الثابت بها

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق ) أراد بالملك المطلق أن يدعي الملك من غير أن يتعرض للسبب [ ص: 174 ] بأن يقول هذا ملكي ولا يقول هذا ملكي بسبب الشراء أو الإرث أو نحو ذلك ، وهذا لأن المطلق ما يتعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات ، وقيد الملك بالمطلق احتراز عن المقيد بدعوى النتاج ، وعن المقيد بما إذا ادعيا تلقي الملك من واحد وأحدهما قابض ، وبما إذا ادعيا الشراء من اثنين وأرخا وتاريخ ذي اليد أسبق ، فإن في هذه الصورة تقبل بينة ذي اليد بالإجماع ، كذا في الشروح .

قال صاحب العناية بعد هذا ، فإن قيل : أما انتقض مقتضى القسمة حيث قبلت بينة ذي اليد وهو مدعى عليه ؟ قلت نعم ; لأن قبولها من حيث ما ادعى من زيادة النتاج والقبض وسبق التاريخ فهو من تلك الجهة مدع والبينة للمدعي . فإن قلت : فهل يجب على الخارج اليمين لكونه إذ ذاك مدعى عليه ؟ قلت : لا ; لأن اليمين إنما تجب عند عجز المدعي عن البينة ، وهاهنا لم يعجز ، إلى هاهنا كلامه . وقد أورد بعض الفضلاء على جوابه عن السؤال الأول بأنه لو كان مدعيا لصدق تعريفه عليه ، وليس كذلك فإنه لا يجبر الخارج على الخصومة ويجبر هو عليه .

وعلى جوابه عن السؤال الثاني بأن مراد السائل فهل يجب على الخارج اليمين عند عجز ذي اليد عن البينة وإلا فلا تمشية لسؤاله أصلا ؟ أقول : إيراده الثاني متوجه ظاهر ، وقد كنت كتبته في مسوداتي قبل أن أرى ما كتبه ، وأما إيراده الأول فمندفع لأن ذا اليد لا يجبر على الخصومة من حيث إنه مدع الزيادة المذكورة في الصور المزبورة ، وإنما يجبر عليها من حيث إنه مدعى عليه باستحقاق الخارج لما في يده . وهذا ظاهر وكذا الخارج إنما لا يجبر على الخصومة من حيث إنه مدع على ذي اليد استحقاقه لما في يده . وأما من حيث إنه مدعى عليه بالزيادة المذكورة في الصورة المزبورة فيجبر عليها . وتحقيقه أن دعوى ذي اليد في الصورة المزبورة دعوى تابعة لدعوى الخارج حيث يقصد بها ذو اليد دفع دعوى الخارج لا دعوى مبتدأة مقصودة بالأصالة ، فمتى جرى الخارج على دعواه يدعي عليه ذو اليد الزيادة المذكورة ، ويجبر الخارج على الجواب عن دعوى ذي اليد والخصومة معه من حيثية كونه مدعى عليه ، وإن ترك الخارج دعواه لا يدعي عليه ذو اليد شيئا لكون دعواه تابعة لدعوى الخارج ، وترك المتبوع يستلزم ترك التابع فلا يجبر الخارج على الخصومة معه أصلا ، ولولا هذا التحقيق لانتقض تعريف المدعي والمدعى عليه بما هو حد عام صحيح على ما نص عليه المصنف فيما قبل وتقرر عندهم ، وهو أن المدعي من لا يجبر على الخصومة إذا تركها ، والمدعى عليه من يجبر على الخصومة بصور كثيرة غير الصورة المزبورة ، كما إذا ادعى رجل على آخر دينا معينا فادعى الآخر عليه إيفاء ذلك الدين إياه أو إبراءه عن ذلك الدين فإن الأول لو ترك الخصومة لم يجبر عليها مع كونه مدعى عليه بالإيفاء أو الإبراء ، وكذا الحال في جميع صور دعاوى الدفع فالمخلص في الكل ما بيناه وحققناه .

ثم أقول : بقي لنا كلام في أثناء جواب صاحب العناية عن السؤال الأول ، وهو أنه بين الزيادة التي يدعيها ذو اليد في الصور المزبورة بالنتاج والقبض وسبق التاريخ ، فالأول والثالث صحيحان ، والثاني ليس بظاهر الصحة لأن معنى كون أحدهما قابضا في الصورة الثانية أن يكون المدعي في يده بالفعل لا أن يثبت قبضه بالبينة على ما سيجيء تفسيره وبيانه في الكتاب ، وشروحه في باب ما يدعيه الرجلان . ولا يخفى أن كون المدعى في يد القابض في تلك الصورة أمر معاين لا يدعيه ذو اليد أصلا فضلا عن إقامة البينة عليه وقبول بينته بالإجماع فظهر أن بيان ما ادعاه ذو اليد من الزيادة في الصورة المزبورة بالقبض ليس بتام . فالحق أن يقول بدل قوله والقبض : وتلقي الملك من شخص مخصوص فتدبر ( وبينة الخارج أولى ) يعني أن بينة الخارج وبينة ذي اليد إذا تعارضتا على الملك المطلق فبينة الخارج أولى بالقبول عندنا ، وفي أحد قولي الشافعي تهاترت البينتان ويكون المدعي لذي اليد تاركا في يده وهذا قضاء ترك .

لا قضاء ملك ، وفي القول الآخر ترجح بينة ذي اليد فيقضى بها لذي اليد قضاء ملك بالبينة وهو الذي [ ص: 175 ] ذكره المصنف بقوله ( وقال الشافعي : يقضى ببينة ذي اليد لاعتضادها باليد ) أي لتأكد البينة باليد لأن اليد دليل الملك ( فيتقوى الظهور ) أي فيتقوى ظهور المدعي ( وصار ) أي صار حكم هذه المسألة ( كالنتاج ) أي كحكم مسألة النتاج بأن ادعى كل واحد من الخارج وذي اليد أن هذه الدابة نتجت عنده وأقاما البينة على ذلك ولأحدهما يد فإنه يقضى لذي اليد ( والنكاح ) أي وكحكم مسألة النكاح بأن تنازعا في نكاح امرأة وأقاما البينة على ذلك ولأحدهما يد فبينة ذي اليد أولى ( ودعوى الملك مع الإعتاق ) أي وكحكم مسألة دعوى الملك مع الإعتاق بأن يكون عبد في يد رجل أقام الخارج البينة أن عبده أعتقه وأقام ذو اليد البينة أنه أعتقه وهو يملكه فبينة ذي اليد أولى ( أو الاستيلاد ) عطف على الإعتاق ، فالمعنى : أو دعوى الملك مع الاستيلاد بأن تكون أمة في يد رجل فأقام كل واحد من الخارج وذي اليد البينة أنها أمته استولدها فبينة ذي اليد أولى ( أو التدبير ) أي أو دعوى الملك مع التدبير بأن يكون عبد في يد رجل فأقام كل واحد من الخارج وذي اليد البينة أنه عبده دبره فبينة ذي اليد أولى ( ولنا أن بينة الخارج أكثر إثباتا ) أي في علم القاضي ( أو إظهارا ) أي في الواقع فإن بينته تظهر ما كان ثابتا في الواقع ( لأن قدر ما أثبتته اليد لا تثبته بينة ذي اليد ، إذ اليد دليل مطلق الملك ) ألا يرى أن من رأى شيئا في يد إنسان جاز له أن يشهد بأنه ملك له ، فبينة ذي اليد غير مثبتة للملك لئلا يلزم تحصيل الحاصل ، وإنما هي مؤكدة للملك الثابت باليد ، والتأكيد إثبات وصف للموجود لا إثبات أصل الملك .

وأما بينة الخارج فمثبتة لأصل الملك ، فصح قولنا إنها أكثر إثباتا ، وما هو أكثر إثباتا في البينة فهو أولى بالقبول لتوفر ما شرعت البينات لأجله فيه . هذا زبدة ما في الشروح في حل كلام المصنف هاهنا .

فإن قيل : بينة الخارج تزيل ما أثبته اليد من الملك فبينة ذي اليد تفيد الملك ولا يلزم تحصيل الحاصل .

أجيب بأن البينة ليست موجبة بنفسها حتى تزيد بينة الخارج ما ثبت باليد ، وإنما تصير موجبة عند اتصال القضاء بها كما تقدم ، فقبله يكون الملك ثابتا للمدعى عليه ، وإثبات الثابت لا يتصور فلا تكون بينة ذي اليد مثبتة بل مؤكدة لملك ثابت ، والتأسيس أولى من التأكيد ، كذا في العناية . أقول : بقي هاهنا شيء ، وهو أن المتبادر من قولهم إن بينة الخارج أكثر إثباتا ومن قولهم إن بينة الخارج أولى بالقبول من بينة ذي اليد في الملك المطلق أن لذي اليد أيضا بينة وأن من حقه إقامتها على الملك المطلق أيضا ، إلا أن بينة الخارج أولى بالقبول من بينته لكونها أكثر إثباتا ، لكن التحقيق يقتضي أن لا يكون لذي اليد بينة شرعية في الملك المطلق ، وأن لا يكون من حقه إقامتها على الملك المطلق أصلا لأنه مدعى عليه محض ، وليس على المدعى عليه غير اليمين بالحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام [ ص: 176 ] { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } كما مر بيانه .

فالأظهر في الاستدلال من قبلنا على مسألتنا هذه ما ذكر في بعض الشروح من أن لنا قوله عليه الصلاة والسلام { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } فإنه عليه الصلاة والسلام جعل جميع البينة في جانب المدعي ، لأن اللام في البينة لاستغراق الجنس لعدم العهد فلم يبق في جانب المدعى عليه إلا اليمين ، والمدعي اسم لمن يدعي الشيء ولا دلالة معه ، ولهذا يقال لمسيلمة الكذاب مدعي النبوة والخارج بهذه المثابة لأنه لا دلالة معه على الملك ، بخلاف ذي اليد فإن اليد دليل الملك انتهى ( بخلاف النتاج لأن اليد لا تدل عليه ) فكانت بينة ذي اليد كبينة الخارج مثبتة له لا مؤكدة فكانت كل واحدة من البينتين للإثبات فترجحت إحداهما باليد ، وكذا الحال في النكاح ، إلا أن المصنف لم يذكره من بين أخواته إما نسيانا وإما اعتمادا على معرفة حاله مما ذكره في النتاج ( وكذا على الإعتاق وأختيه ) أي وكذا اليد لا تدل على الإعتاق وأختيه وهما الاستيلاد والتدبير ، فاستوت البينتان في الإثبات في هذه الصور أيضا فترجحت إحداهما باليد ( وعلى الولاء الثابت بها ) أي بهذه الأشياء الثلاثة وهي : الإعتاق ، والاستيلاد ، والتدبير : يعني أن اليد لا تدل على الولاء الثابت بها أيضا فاستوت البينتان في ذلك أيضا فترجحت إحداهما باليد




الخدمات العلمية