الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 268 ] ولو تلقى كل واحد منهما الملك من رجل أقام البينة على النتاج عنده فهو بمنزلة إقامتها على النتاج في يد نفسه ( ولو أقام أحدهما البينة على الملك والآخر على النتاج فصاحب النتاج أولى أيهما كان ) لأن بينته قامت على أولية الملك فلا يثبت للآخر إلا بالتلقي من جهته ، وكذلك إذا كانت الدعوى بين خارجين فبينة النتاج أولى لما ذكرنا ( ولو قضى بالنتاج لصاحب اليد ثم أقام ثالث البينة على النتاج يقضي له إلا أن يعيدها ذو اليد ) لأن الثالث لم يصر مقضيا عليه بتلك القضية ، [ ص: 269 ] وكذا المقضي عليه بالملك المطلق إذا أقام البينة على النتاج تقبل وينقض القضاء لأنه بمنزلة النص .

التالي السابق


( لو تلقى كل واحد منهما ) أي ولو أخذ كل واحد من الخارج وذي اليد ( الملك من رجل ) على حدة فكان هناك مملكان ( وأقام البينة على النتاج عنده ) أي وأقام كل واحد منهما البينة على النتاج عند من تلقى الملك منه ( فهو بمنزلة إقامتها على النتاج في يد نفسه ) فيقضي به لذي اليد لأن كل واحد منهما خصم عمن يتلقى الملك منه ، فكأن المملكين قد حضرا وأقاما على ذلك بينة فإنه يقضي ثمة لصاحب اليد كذلك هاهنا ( ولو أقام أحدهما البينة على الملك والآخر على النتاج فصاحب النتاج أولى أيهما كان ) أي خارجا كان صاحب النتاج أو ذا اليد ( لأن بينته ) أي لأن بينة صاحب اليد ( قامت على أولية الملك فلا يثبت ) أي فلا يثبت الملك ( للآخر إلا بالتلقي من جهته ) أي من جهة صاحب النتاج ، والفرض أن الآخر لم يتلق منه ( وكذا إذا كانت الدعوى بين خارجين ) بأن ادعى أحدهما الملك والآخر النتاج ( فبينة النتاج أولى لما ذكرنا ) من أن بينته تدل على أولية الملك فلا يثبت للآخر إلا بالتلقي من جهته ( ولو قضى بالنتاج لصاحب اليد ثم أقام ثالث البينة على النتاج يقضي له ) أي للثالث ( إلا أن يعيدها ) أي البينة ( ذو اليد ) فحينئذ يقضي له ( لأن الثالث لم يصر مقضيا عليه بتلك القضية ) لأن المقضي به الملك ، وثبوت الملك بالبينة في حق شخص لا يقضي بثبوته في حق آخر . فإن أعاد ذو اليد بينته قضى له بها تقديما لبينة ذي اليد على بينة الخارج في النتاج وإن لم يعد قضى بها للثالث . قال في البدائع : فرق بين الملك وبين العتق أن القضاء بالعتق على شخص واحد يكون قضاء على الناس كافة ، والقضاء بالملك على شخص واحد لا يكون قضاء على غيره ، وإن كانت بينة النتاج توجب الملك بصفة الأولية وأنه لا يحتمل التكرار كالعتق .

وجه الفرق أن العتق حق الله تعالى ; ألا يرى أن العبد لا يقدر على إبطاله حتى لا يجوز استرقاق الحر برضاه ، ولو كان حق العبد لقدر على إبطاله ، وإذا كان حق الله تعالى فالناس في إثبات حق الله تعالى خصوم عنه بطريق النيابة لكونهم عبيده ، فكان حضرة الواحد كحضرة الكل والقضاء على الواحد قضاء على الكل لاستوائهم في العبودية بمنزلة الورثة لما قاموا مقام الميت في إثبات حقوقه والدفع عنه لكونهم خلفاءه قام الواحد منهم مقام الكل لاستوائهم في الخلافة ، بخلاف الملك فإنه خالص حق العبد فالحاضر فيه لا ينتصب خصما عن الغائب إلا بالإنابة حقيقة أو ثبوت النيابة شرعا أو اتصال بين الحاضر والغائب فيما وقع فيه الدعوى على ما عرف ولم يوجد شيء من ذلك فالقضاء على غيره يكون قضاء الغائب من غير أن يكون [ ص: 269 ] عنه خصم حاضر ، وهذا لا يجوز انتهى ( وكذا المقضي عليه بالملك المطلق ) إن أقام البينة على النتاج تقبل بينته ( وينقض القضاء ) أي وينقض القضاء الأول . صورته ما إذا أقام الخارج البينة على ذي اليد في دابة معينة بالملك المطلق فقضى القاضي بها له ثم أقام ذو اليد البينة على النتاج يقضي بها له وينقض القضاء الأول ، وكذا في النهاية والكفاية ( لأنه بمنزلة النص ) أي لأن إقامة البينة على النتاج بمنزلة النص في الدلالة على الأولية قطعا ، فكان القضاء الواقع على خلافه كالقضاء الواقع على خلاف النص ، والقضاء ينقض هناك ، كذا هنا ، وهذا استحسان . وفي القياس : لا تقبل بينته لأنه صار مقضيا عليه بالملك فلا تقبل ، إلا أن يدعي تلقي الملك من جهة المقضي له .

وجوابه أنه لم يصر مقضيا عليه ; لأن بإقامة البينة على النتاج تبين أن الدافع لبينة المدعي كان موجودا والقضاء كان خطأ فأنى يكون مقضيا عليه ، كذا في العناية وغيرها . أقول : فيه شيء ، وهو أن في ظاهر هذا الجواب خروجا عن المسألة التي نحن بصددها ، فإن عبارة المسألة هكذا : وكذا المقضي عليه بالملك المطلق إذا أقام البينة على النتاج تقبل ، وينقض القضاء ، وقد صرح فيها بكونه مقضيا عليه وينقض القضاء . فإنكار كونه مقضيا عليه ينافيه ظاهرا ، فالأولى في الجواب أن يقال : إن كونه مقضيا عليه لا يضر بقبول بينته ; لأن بإقامة البينة على النتاج تبين أن الدافع لبينة المدعي كان موجودا في نفس الأمر ولكن لم يكن ظاهرا عند القاضي ، فإذا ظهر تبين خطأ القضاء الأول فلم يكن معتبرا فينقض كالقضاء بالظاهر في خلافه نص . قال الشراح : فإن قيل القضاء ببينة الخارج مع بينة ذي اليد على النتاج مجتهد فيه ، فإن ابن أبي ليلى يرجح بينة الخارج فينبغي أن لا ينقض قضاء القاضي لمصادفته موضع الاجتهاد . قلنا : إنما يكون قضاؤه عن اجتهاد إذا كانت بينة ذي اليد قائمة عنده وقت القضاء فيرجح باجتهاده بينة الخارج عليها ، وهذه البينة ما كانت قائمة عنده حال القضاء فلم يكن قضاؤه عن اجتهاد بل كان لعدم ما يدفع البينة من ذي اليد ، فإذا أقام ما يدفع به انتقض القضاء الأول انتهى .

أقول : لا يتوجه السؤال رأسا لأن كلامنا في أن المقضي عليه بالملك المطلق إذا أقام البينة على النتاج تقبل وينقض القضاء ، وترجيح ابن أبي ليلى الخارج فيما إذا ادعى كل واحد من الخارج وذو اليد النتاج على ما بين فيما قبل وذلك غير ما نحن فيه ، وأما ترجيحه بينة الخارج فيما إذا ادعى الخارج الملك المطلق وذو اليد النتاج كما فيما نحن فيه فغير ثابت . وقد تتبعت الكتب ولم أظفر بالتصريح بذلك من أحد قط ، وما ذكروا فيما مر من وجه جواب القياس الذي أخذ به ابن أبي ليلى لا يساعد ذلك جدا كما لا يخفى على المتأمل




الخدمات العلمية