الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 109 ] قال ( فإن كانا وكيلين بالخصومة لا يقبضان إلا معا ) لأنه رضي بأمانتهما لا بأمانة أحدهما ، واجتماعهما ممكن بخلاف الخصومة على ما مر . قال ( والوكيل بقبض الدين يكون وكيلا بالخصومة عند أبي حنيفة رحمه الله ) حتى لو أقيمت عليه البينة على استيفاء الموكل أو إبرائه تقبل عنده ، وقالا : لا يكون خصما وهو [ ص: 110 ] رواية الحسن عن أبي حنيفة لأن القبض غير الخصومة ، وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي في الخصومات فلم يكن الرضا بالقبض رضا بها . ولأبي حنيفة رحمه الله أنه وكله بالتملك لأن الديون تقضى بأمثالها ، إذ قبض الدين نفسه لا يتصور إلا أنه جعل استيفاء العين حقه من وجه [ ص: 111 ] فأشبه الوكيل بأخذ الشفعة والرجوع في الهبة والوكيل بالشراء والقسمة والرد بالعيب ، وهذه أشبه بأخذ الشفعة حتى يكون خصما قبل القبض كما يكون خصما قبل الأخذ هنالك . والوكيل بالشراء لا يكون خصما قبل مباشرة الشراء [ ص: 112 ] وهذا لأن المبادلة تقتضي حقوقا وهو أصيل فيها فيكون خصما فيها

التالي السابق


( قال ) أي محمد في الجامع الصغير ( فإن كانا ) أي الرجلان ( وكيلين بالخصومة لا يقبضان إلا معا ) أي لا يقبضان حق الموكل إلا مجتمعين ( لأنه ) أي الموكل ( رضي بأمانتهما لا بأمانة أحدهما ) وحده ( واجتماعهما ممكن ) أي اجتماع الوكيلين على القبض ممكن شرعا فإنهما يصيران قابضين بالتخلية بلا محذور ( بخلاف الخصومة ) فإن اجتماعهما عليها غير ممكن شرعا ( على ما مر ) أشار به إلى قوله لأن الاجتماع فيها متعذر للإفضاء إلى الشغب في مجلس القضاء ( قال ) أي القدوري في مختصره ( والوكيل بقبض الدين يكون وكيلا بالخصومة عند أبي حنيفة ) قيد بقبض الدين لأن الوكيل بقبض العين لا يكون وكيلا بالخصومة بالإجماع على ما سيجيء ، والكلام فيه يرجع إلى أصله . وهو أن التوكيل إذا وقع باستيفاء عين حق الموكل لم يكن وكيلا بالخصومة ; لأن التوكيل بالخصومة وقع بالقبض لا غير ، وإذا وقع التوكيل بالتملك كان وكيلا بالخصومة لأن التملك إنشاء تصرف وحقوق العقد تتعلق بالعاقد ، كذا قالوا وسيظهر حكم هذا الأصل في دليل المسألة .

ونقل في الفتاوى الصغرى عن مفقود شيخ الإسلام خواهر زاده أن الوكيل بقبض الدين لا يملك الخصومة إجماعا إن كان الوكيل من القاضي كما لو وكل وكيلا بقبض ديون الغائب ، كذا في غاية البيان . ثم إن المصنف أراد أن يبين ثمرة قول أبي حنيفة في هذه المسألة فقال ( حتى لو أقيمت عليه ) أي على الوكيل بقبض الدين ( البينة على استيفاء الموكل ) أي على استيفاء الدين من المديون ( أو إبرائه ) أي أو على إبراء الموكل المديون عن الدين ( تقبل عنده ) أي تقبل البينة عند أبي حنيفة . وفي الذخيرة : إذا جحد الغريم الدين وأراد الوكيل بالقبض أن يقيم البينة على الدين هل تقبل بينته ؟ على قول أبي حنيفة تقبل ، وعلى قولهما لا تقبل ( وقالا : لا يكون خصما ) أي وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : لا يكون الوكيل بقبض الدين خصما ( وهو ) أي قولهما [ ص: 110 ] رواية الحسن عن أبي حنيفة ) وبه قال الشافعي في الأصح وأحمد في ظاهر الرواية ( لأن القبض غير الخصومة ) فلم يكن التوكيل بالقبض توكيلا بالخصومة ( وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي في الخصومات فلم يكن الرضا بالقبض رضا بها ) أي بالخصومة ( ولأبي حنيفة أنه ) أي الموكل ( وكله بالتملك ) أي وكل الوكيل بقبض الدين بتملك المقبوض بمقابلة ما في ذمة المديون قصاصا ( لأن الديون تقضى بأمثالها ) لا بأعيانها ( إذ قبض الدين نفسه ) أي قبض نفس الدين ( لا يتصور ) لأنه وصف ثابت في ذمة من عليه ( إلا أنه جعل استيفاء العين حقه من وجه ) استثناء من قوله لأن الديون تقضى بأمثالها : يعني أن الديون وإن كانت تقضى بأمثالها لا بأعيانها لما ذكرنا آنفا ، إلا أن قبض المثل جعل استيفاء لعين حق الدائن من وجه ولهذا يجبر المديون على الأداء ، ولو كان تملكا محضا لما أجبر عليه ، وكذا إذا ظفر الدائن بجنس حقه حل له الأخذ .

هذا خلاصة ما ذكره الجمهور في شرح هذا المقام . وأما صاحب العناية فقال في شرحه : لكن الشرع جعل قبضه استيفاء لعين حقه من وجه لئلا يمتنع قضاء ديون لا يجوز الاستبدال بها ، والتوكيل بقبض الدين ، فإنه إذا كان توكيلا بالتملك كان توكيلا بالاستقراض ، إذ التوكيل بقبض مثل مال الموكل لا عين ماله ثم يتقاصان ، والتوكيل بالاستقراض باطل ا هـ . أقول : فيه بحث ، إذ لمانع أن يمنع امتناع التوكيل بقبض الدين على تقدير أن لا يجعل قبضه استيفاء لعين حقه من وجه لجواز تصحيح التوكيل بقبض الدين على ذلك التقدير يجعله رسالة بالاستقراض من حيث المعنى ، والرسالة بالاستقراض جائزة ، وقد أفصح عنه صاحب الذخيرة حيث قال : وفي المسألة نوع إشكال ، لأن التوكيل بقبض الدين توكيل بالاستقراض معنى ، لأن الديون تقضى بأمثالها ، فما قبضه رب الدين من المديون يصير مضمونا عليه وله على الغريم مثله فيلتقيان قصاصا .

وقد ذكرنا أن التوكيل بالاستقراض غير صحيح . والجواب أن التوكيل بقبض الدين رسالة بالاستقراض من حيث المعنى ، وليس بتوكيل بالاستقراض لأنه لا بد للوكيل بقبض الدين من إضافة القبض إلى موكله بأن يقول : إن فلانا وكلني بقبض ماله عليك من الدين كما لا بد للرسول في الاستقراض من إضافة المرسل بأن يقول : أرسلني فلان إليك يقول لك أقرضني كذا ، بخلاف الوكيل بالاستقراض فإنه يضيف إلى نفسه فيقول أقرضني فصح ما ادعيناه أنه رسالة معنى ، والرسالة بالاستقراض جائزة ، إلى هنا كلامه .

ثم اعلم أن الإمام الزيلعي قد ذكر في شرح الكنز ما ذكره صاحب الذخيرة من الإشكال والجواب المزبورين وقال : هكذا ذكره في النهاية وعزاه إلى الذخيرة ، ثم قال : وهذا سؤال حسن ، والجواب غير مخلص على قول أبي حنيفة ، فإنه لو كان رسولا لما كان له أن يخاصم ا هـ . أقول : ليس ذاك بسديد ، إذ ليس المراد أن الوكيل بقبض الدين رسول من كل وجه حتى لا يكون خصما ، بل المراد أنه رسول [ ص: 111 ] بالاستقراض بالنظر إلى قبض مثل الدين ابتداء ووكيل بالتملك بالنظر إلى المقاصة الحاصلة بعد ذلك ، وكونه خصما حكم مترتب على الثاني دون الأول فلا غبار على الجواب ( فأشبه ) أي الوكيل بقبض الدين ( الوكيل بأخذ الشفعة ) يعني أنه أشبه ذلك في كونه خصما ، فإنه إذا أقام المشتري البينة على الوكيل بأخذ الشفعة على تسليم الموكل الشفعة تقبل ( والرجوع في الهبة ) بالجر عطف على أخذ الشفعة : أي فأشبه أيضا الوكيل بالرجوع في الهبة ، فإنه إذا أقام الموهوب له البينة على الوكيل بالرجوع على أن الموكل الواهب أخذ العوض تقبل ( والوكيل بالشراء ) بالنصب عطف على الوكيل بأخذ الشفعة : أي فأشبه أيضا الوكيل بالشراء فإنه خصم يطالب بحقوق العقد ولا يرى لفصله عما قبله بإعادة لفظ الوكيل كثير فائدة ( والقسمة ) بالجر عطف على الشراء : أي فأشبه أيضا الوكيل بالقسمة .

فإن أحد الشريكين إذا وكل رجلا بأن يقاسم مع شريكه وأقام الشريك البينة عليه بأن الموكل قبض نصيبه فإنها تقبل ( والرد بالعيب ) بالجر عطف على الشراء أيضا : أي فأشبه أيضا الوكيل بالرد بالعيب على البائع ، فإن البائع إذا أقام البينة عليه بأن الموكل رضي بالعيب تقبل ( وهذه ) أي مسألة الكتاب وهي مسألة الوكيل بقبض الدين ، وفي بعض النسخ وهذا : أي الوكيل بقبض الدين ( أشبه بأخذ الشفعة ) أي أشبه بالوكيل بأخذ الشفعة منها بالوكيل بالشراء ، كذا صرحوا به في شروح الجامع الصغير .

واعلم أن شراح الهداية قد افترقوا في تفسير معنى كلام المصنف هذا وتبيين المراد بالمفضل عليه هاهنا فقال صاحب النهاية : أي الوكيل بقبض الدين أشبه بالوكيل بأخذ الشفعة من الوكيل بالشراء ، وذكر هذا المعنى صاحب العناية وغاية البيان أيضا ، لكن بطريق النقل عن شروح الجامع الصغير بعبارتين ، فقال صاحب العناية : قالوا في شروح الجامع الصغير : وهذه أي مسألة الوكيل بالقبض أشبه بالوكيل بأخذ الشفعة منها بالوكيل بالشراء . وقال صاحب الغاية : قالوا في شروح الجامع الصغير : إن الوكيل بقبض الدين أشبه بالوكيل بأخذ الشفعة من الوكيل بالشراء .

وقال تاج الشريعة : أي مسألة الوكيل بقبض الدين أشبه بمسألة الوكيل بأخذ الشفعة من المسائل الثلاث الأخر ، وعلل ذلك بأن في هذه المسائل ما لم توجد المبادلة لا تثبت الوكالة بخلاف مسألة الشفعة وقبض الدين ، وإليه ذهب صاحب معراج الدراية والشارح العيني أيضا ، ولكن لم يعينوا تلك الثلاث الأخر من بين المسائل الأربع الباقية بعد مسألة الوكيل بأخذ الشفعة . ثم إن المصنف بين وجه الأشبهية بقوله ( حتى يكون خصما قبل القبض ) أي حتى يكون الوكيل بقبض الدين خصما عند أبي حنيفة قبل قبض الدين ( كما يكون ) أي كما يكون الوكيل ( خصما قبل الأخذ ) أي قبل أخذ العقار ( هنالك ) أي في التوكيل بأخذ الشفعة ( والوكيل بالشراء لا يكون خصما قبل مباشرة الشراء ) فافترقا .

أقول : لا يذهب عليك أن تخصيص الوكيل بالشراء بالذكر هاهنا يشعر بكون المراد بالمفضل عليه في قوله فيما مر ، وهذه أشبه بأخذ الشفعة هو الوكيل بالشراء ، فيكون معناه : أن مسألة الوكيل بقبض الدين أشبه بمسألة الوكيل بأخذ الشفعة لأنها بالوكيل بالشراء ، كما صرح به شراح الجامع الصغير وذهب إليه فرقة من شراح الهداية ، واخترناه أيضا في شرحنا هنالك بناء على هذا ، ولكن بقيت شبهة ، وهي أن الوكيل إن لم يكن خصما قبل المباشرة لما وكل به في المسائل الأربع الباقية أيضا لا يظهر لتخصيص مسألة الوكيل بالشراء بالذكر وجعل المفضل عليه إياها فقط وجه وإن كان خصما قبل ذلك في تلك المسائل أيضا كما هو الظاهر سيما في مسألة التوكيل بالقسمة ، إذ لا شك أن الشريك الآخر لو أقام البينة قبل أن يقسم الوكيل [ ص: 112 ] بالقسمة ما وكل بتقسيمه على أن الموكل قبض نصيبه منه تقبل بينته ، لا يظهر لتخصيص أشبهية الوكيل بقبض الدين بالوكيل بأخذ الشفعة وجه ، إذ يصير الوكيل بقبض الدين حينئذ أشبه بتلك المسائل أيضا من الوكيل بالشراء فتأمل ( وهذا ) إشارة إلى مطلع نكتة أبي حنيفة بقوله إنه وكله بالتملك ( لأن المبادلة تقتضي حقوقا ) كالتسليم والتسلم وغير ذلك ( وهو ) أي الوكيل بالتملك ( أصيل فيها ) أي في الحقوق ( فيكون خصما فيها ) أي في الحقوق : يعني كأن الموكل أمر الوكيل بتملك مثل الدين الذي على المديون وذلك مبادلة ، والمأمور بالمبادلة يكون أصيلا في حقوق المبادلة ، كذا في النهاية وأكثر الشروح . وقال صاحب العناية : قوله وهذا إشارة إلى ما أشرنا إليه مما يتم به دليل أبي حنيفة ، وهو أن الوكيل بالتملك أصيل في الحقوق ا هـ .

فعليك الاختبار ثم الاختيار . واعترض بعض الفضلاء على كلام المصنف هنا حيث قال : فيه بحث ، فإن المبادلة لم تقع من الوكيل بل من موكله ، فكيف يكون الوكيل أصيلا في حقوقها . وقال : فإن قيل : المبادلة في التملك بأخذ الدين .

قلنا : ذلك لم يقع بعد فتأمل ا هـ . أقول : ليس هذا بمتوجه ، لأن تعلق بعض الحقوق بشيء قبل وقوعه ليس بعزيز ; ألا يرى أن حق الخصومة يثبت للوكيل بأخذ الشفعة قبل وقوع الأخذ ، فكذا هاهنا ، وقد أشار إليه المصنف بقوله وهذه أشبه بأخذ الشفعة حتى يكون خصما قبل القبض كما يكون خصما قبل الأخذ هنالك . ثم إن التحقيق أن قبض الدين وإن كان مبادلة من جهة كون الديون تقضى بأمثالها إلا أنه استيفاء لعين الحق من وجه كما مر ، فلشبهه بالمبادلة تعلق حق الخصومة بالوكيل ، ولشبهه بأخذ عين الحق جازت الخصومة قبل وقوع التملك بقبض الدين ويرشد إليه ما ذكره الإمام قاضي خان في شرح الجامع الصغير حيث قال : لا يقال لو كان وكيلا بالمبادلة وجب أن تلحقه العهدة في المقبوض .

لأنا نقول : إنما لا تلحقه العهدة في المقبوض لأن قبض الدين وإن كان مبادلة من الوجه الذي ذكرناه فهو استيفاء عين الحق من وجه ; لأن من الديون ما لا يجوز الاستبدال به ، فلشبهه بالمبادلة جعلناه خصما ، ولشبهه بأخذ العين لا تلحقه العهدة في المقبوض عملا بها ا هـ




الخدمات العلمية