الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
. قال ( ومن ادعى أنه وكيل الغائب في قبض دينه فصدقه الغريم أمر بتسليم الدين إليه ) لأنه إقرار على نفسه لأن ما يقضيه خالص ماله ( فإن حضر الغائب [ ص: 126 ] فصدقه وإلا دفع إليه الغريم الدين ثانيا ) لأنه لم يثبت الاستيفاء حيث أنكر الوكالة ، والقول في ذلك قوله مع يمينه فيفسد الأداء ( ويرجع به على الوكيل إن كان باقيا في يده ) لأن غرضه من الدفع براءة ذمته ولم تحصل فله أن ينقض قبضه ( وإن كان ) ضاع ( في يده لم يرجع عليه ) لأنه بتصديقه اعترف أنه محق في القبض وهو مظلوم في هذا الأخذ ، والمظلوم لا يظلم غيره [ ص: 127 ] قال ( إلا أن يكون ضمنه عند الدفع ) لأن المأخوذ ثانيا مضمون عليه في زعمهما ، وهذه كفالة أضيفت إلى حالة القبض فتصح بمنزلة الكفالة بما ذاب له على فلان ، ولو كان الغريم لم يصدقه على الوكالة ودفعه إليه على ادعائه ، فإن رجع صاحب المال على الغريم رجع الغريم على الوكيل لأنه لم يصدقه على الوكالة ، وإنما دفعه إليه على رجاء الإجازة ، فإذا انقطع رجاؤه رجع عليه ، وكذا إذا دفعه إليه [ ص: 128 ] على تكذيبه إياه في الوكالة . وهذا أظهر لما قلنا ، وفي الوجوه كلها ليس له أن يسترد المدفوع حتى يحضر الغائب لأن المؤدى صار حقا للغائب ، إما ظاهرا أو محتملا فصار كما إذا دفعه إلى فضولي على رجاء الإجازة لم يملك الاسترداد لاحتمال الإجازة ، ولأن من باشر التصرف لغرض ليس له أن ينقضه ما لم يقع اليأس عن غرضه .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( ومن ادعى أنه وكيل الغائب ) أي وكيل فلان الغائب ( في قبض دينه فصدقه الغريم ) أي المديون ( أمر ) أي الغريم ( بتسليم الدين ) وفي بعض النسخ بتسليم المال ( إليه ) أي إلى مدعي الوكالة ( لأنه ) أي لأن تصديق الغريم إياه ( إقرار على نفسه لأن ما يقضيه خالص ماله ) أي لأن ما يقضيه المديون خالص مال المديون ، إذ الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها كما تقدم وتقرر ، فما أداه المديون مثل مال رب الدين لا عينه ، فكان تصديقه إقرارا على نفسه ، ومن أقر على نفسه بشيء أمر بتسليمه إلى المقر له ( فإن حضر الغائب ) أي رب الدين [ ص: 126 ]

( فصدقه ) أي صدق الوكيل فيها ( وإلا ) أي وإن لم يصدقه ( دفع إليه ) أي إلى رب الدين ( الغريم الدين ثانيا لأنه لم يثبت الاستيفاء ) أي استيفاء رب الدين حقه ( حيث أنكر الوكالة ، والقول في ذلك قوله ) أي القول في إنكار الوكالة قول رب الدين ( مع يمينه ) لأن الدين كان ثابتا والمديون يدعي أمرا عارضا وهو سقوط الدين بأدائه إلى الوكيل ورب الدين ينكر الوكالة والقول قول المنكر مع يمينه ، وإذا لم يثبت الاستيفاء ( فيفسد الأداء ) أي يفسد الأداء إلى مدعي الوكالة ، وأداء الدين واجب على المديون فيجب الدفع ثانيا إلى رب الدين ( ويرجع به ) أي ويرجع المديون بما دفعه أولا ( على الوكيل ) أي على مدعي الوكالة ( إن كان باقيا في يده ) أي إن كان ما دفعه إلى الوكيل باقيا في يده ( لأن غرضه ) أي غرض المديون ( من الدفع ) أي من الدفع إلى الوكيل ( براءة ذمته ) من الدين ( ولم تحصل ) أي لم تحصل البراءة ( فله أن ينقض قبضه ) أي فللمديون أن ينقض قبض الوكيل ( وإن كان ضاع ) أي إن كان ما دفعه إلى الوكيل ضاع ( في يده لم يرجع ) أي المديون ( عليه ) أي على الوكيل ( لأنه ) أي المديون ( بتصديق ) أي بتصديق الوكيل ( اعترف أنه ) أي الوكيل ( محق في القبض ) والمحق في القبض لا رجوع عليه ( وهو ) أي المديون ( مظلوم في هذا الأخذ ) أي في الأخذ الثاني ، وهذه الجملة أعني قوله " وهو مظلوم في هذا الأخذ " معطوف على ما في حيز " أن " في قوله " اعترف أنه محق في القبض " فالمعنى أن المديون بتصديق الوكيل اعترف أيضا أنه زعم أنه مظلوم في هذا الأخذ الثاني ( والمظلوم لا يظلم غيره ) فلا يأخذ المديون من الوكيل بعد الإهلاك .

قال صاحب العناية : فإن قيل : هذا الوجه يقتضي أن لا يرجع عليه إذا كانت العين في يده باقية أيضا . فالجواب أن العين إذا كانت باقية أمكن نقض القبض فيرجع بنقضه إذا لم يحصل غرضه من التسليم ، وأما إذا هلكت فلم يمكن نقضه فلم يرجع عليه انتهى . أقول : لقائل أن يقول : إن المحق في القبض كما لا يرجع عليه ابتداء لا يتيسر نقض قبضه أيضا بلا رضاه فكيف يرجع بنقضه وإن المظلوم كما لا يجوز له أن يظلم غيره ابتداء كذلك لا يجوز له أن يتوسل إليه بوسيلة كنقض القبض هاهنا فلا يتم الجواب المذكور . فالجواب الواضح أن الوكيل وإن كان محقا في القبض على زعم المديون إلا أن قبضه لم يكن لنفسه أصالة ، بل كان لأجل الإيصال إلى موكله بطريق النيابة ، فلم يكن ما قبضه ملك نفسه ، فإذا أخذ الدائن من المديون ثانيا ولو كان ظلما في زعم المديون لم يبق للوكيل حق إيصال ما قبضه إلى الموكل لوصول حق الموكل إلى نفسه من الغريم ، فإن كان عين ما قبضه الوكيل باقيا في يده لم يكن رجوع المديون عليه ظلما له أصلا لأن ما قبضه لم يكن ملك نفسه بل كان مقبوضا لأجل الإيصال إلى موكله ; وإذا لم يبق له حق الإيصال إلى الموكل فللمديون نقض قبضه بعد ذلك لعدم حصول غرضه من الدفع إليه ، بخلاف ما إذا كان عين ما قبضه هالكا ، فإن ما قبضه وإن لم يكن ملك نفسه إلا أن يده كانت يد أمانة على زعم المديون حيث صدقه في الوكالة ، وتضمين الأمين ظلم لا يخفى .

ثم إن الإمام الزيلعي قال في التبيين : ويرد على هذا ما لو كان لرجل ألف درهم مثلا وله ألف آخر دين على رجل فمات وترك ابنين فاقتسما [ ص: 127 ] الألف العين نصفين فادعى الذي عليه الدين أن الميت استوفى منه الألف من حياته فصدقه أحدهما وكذبه الآخر فالمكذب يرجع عليه بخمسمائة ويرجع بها الغريم على المصدق وهو في زعمه أن المكذب ظلمه في الرجوع عليه فظلم هو المصدق بالرجوع بما أخذ المكذب .

وذكر في الأمالي أنه لا يرجع ، لأن الغريم زعم أنه برئ عن جميع الألف ، وإلا أن الابن الجاحد ظلمه ، ومن ظلم ليس له أن يظلم غيره ، وما أخذه الجاحد دين على الجاحد ودين الوارث لا يقضى من التركة .

وجه الظاهر أن المصدق أقر على أبيه بالدين ; لأن الإقرار بالاستيفاء إقرار بالدين ; لأن الديون تقضى بأمثالهما فإذا كذبه الآخر منه خمسمائة لم تسلم له البراءة إلا عن خمسمائة فبقيت خمسمائة دينا على الميت فيرجع بها على المصدق فيأخذ ما أصابه بالإرث حتى يستوفى ، لأن الدين مقدم على الإرث ، وإلى هنا كلامه فتأمل ( قال ) أي المصنف في البداية ( إلا أن يكون ضمنه عند الدفع ) هذا استثناء من قوله لم يرجع عليه : يعني إذا ضاع في يده لم يرجع عليه ، إلا أن يكون ضمنه عند الدفع ، وهذا اللفظ مروي بالتشديد والتخفيف ، ففي التشديد كان الضمير المستكن في ضمنه مسندا إلى المديون والضمير البارز راجعا إلى الوكيل ، وفي التخفيف على العكس ، فإن معنى التشديد هو أن يجعل المديون الوكيل ضامنا عند دفع المال إلى الوكيل بأن يقول له اضمن لي ما دفعته إليك عن الطالب ، حتى لو أخذ الطالب مني ماله آخذ منك ما دفعته إليك ، ومعنى التخفيف هو أن يقول الوكيل للمديون أنا ضامن لك إن أخذ منك الطالب ثانيا فأنا أرد عليك ما قبضته منك .

وعلى كلا التقديرين يرجع المديون على الوكيل ( لأن المأخوذ ) منه ( ثانيا مضمون عليه ) أي على رب الدين ( في زعمهما ) أي في زعم الوكيل والمديون ، لأن رب الدين في حقهما غاصب فيما يقبضه ثانيا ( وهذه ) أي هذه الكفالة ( كفالة أضيفت إلى حالة القبض ) أي إلى حالة قبض رب الدين ثانيا ( فتصح ) أي فتصح هذه الكفالة لإضافتها إلى سبب الوجوب وهو قبض رب الدين فصارت ( بمنزلة الكفالة بما ذاب له على فلان ) أي بما يذوب : أي يجب له عليه ، وهذا ماض أريد به المستقبل ، وقد مر تقديره في كتاب الكفالة ، فوجه المشابهة بين المسألتين كون كل واحدة منهما كفالة أضيفت إلى حال وجوب في المستقبل على المكفول عنه ( ولو كان الغريم لم يصدقه ) أي لم يصدق الوكيل ( على الوكالة ) يعني ولم يكذبه أيضا بل كان ساكتا ، لأن فرع التكذيب سيأتي عقيب هذا ( ودفعه إليه ) أي دفع المال إلى الوكيل ( على ادعائه ) أي بناء على مجرد دعوى الوكيل ( فإن رجع صاحب المال على الغريم رجع الغريم على الوكيل لأنه ) أي الغريم ( لم يصدقه ) أي الوكيل ( على الوكالة ، وإنما دفعه إليه على رجاء الإجازة ) أي على رجاء أن يجيزه صاحب المال .

( فإذا انقطع رجاؤه ) أي رجاء الغريم برجوع صاحب المال عليه ( رجع عليه ) أي رجع الغريم أيضا على الوكيل ( وكذا إذا دفعه إليه ) [ ص: 128 ] أي وكذا الحكم إذا دفع الغريم المال إلى الوكيل ( على تكذيبه ) أي على تكذيب الغريم ( إياه ) أي الوكيل ( في الوكالة ) أي في دعوى الوكالة ( وهذا ) أي جواز رجوع المديون على الوكيل في صورة التكذيب ( أظهر ) أي أظهر من جواز رجوعه عليه في الصورتين الأوليين وهما صورة التصديق مع التضمين وصورة السكوت ، لأنه لما رجع عليه في تينك الصورتين مع أنه لم يكذبه فيهما فلأن يرجع عليه في هذه الصورة وقد كذبه فيها أولى بالطريق لأنه إذا كذبه صار الوكيل في حقه بمنزلة الغاصب وللمغصوب منه حق الرجوع به على الغاصب قطعا ( لما قلنا ) إشارة إلى قوله وإنما دفع إليه على رجاء الإجازة لكنه دليل الرجوع لا دليل الأظهرية كما لا يخفى ( وفي الوجوه كلها ) يعني الوجوه الأربعة المذكورة وهي دفعه مع التصديق من غير تضمين .

ودفعه بالتصديق مع التضمين ، ودفعه ساكتا من غير تصديق ولا تكذيب ، ودفعه مع التكذيب ( ليس له ) أي ليس للغريم ( أن يسترد المدفوع حتى يحضر الغائب ; لأن المؤدى صار حقا للغائب ، إما ظاهرا ) وهو في حالة التصديق ( أو محتملا ) وهو في حالة التكذيب ، كذا في عامة الشروح .

أقول : الحق في بيان قوله أو محتملا أن يقال وهو في حالة التكذيب وحالة السكوت ليتناول كلامه الوجوه المذكورة كلها . وقيل ظاهرا إن كان الوكيل ظاهر العدالة ، أو محتملا إن كان فاسقا أو مستور الحال ( فصار ) أي صار الحكم في الوجوه كلها ( كما إذا دفعه ) أي كما إذا دفع الغريم المال ( إلى فضولي على رجاء الإجازة ) من صاحب المال فإن الدافع هناك ( لم يملك الاسترداد لاحتمال الإجازة ) فكذا هاهنا ( ولأن من باشر التصرف لغرض ) عطف على قوله لأن المؤدى صار حقا للغائب ( ليس له أن ينقضه ما لم يقع اليأس عن غرضه ) أي عن حصول غرضه لأن سعي الإنسان في نقض ما تم من جهته مردود كما إذا كان الشفيع وكيل المشتري ليس له الشفعة لأنه لو كان له الشفعة كان سعيا في نقض ما تم من جهته وهو البيع ، ولم يذكر المصنف أن الغريم إذا أنكر الوكالة هل يحلف أو لا ؟ قال الخصاف : لا يحلف على قول أبي حنيفة ، ويحلف على قولهما لأنه ادعى عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكره يحلف ، لكنه على العلم لأنه على فعل الغير [ ص: 129 ] وله أن الاستحلاف ينبني على دعوى صحيحة ، وما لم تثبت نيابته عن الآمر لم تصح دعواه فلا يستحلف ، وكذا لم يذكر ما إذا أقر بالوكالة وأنكر الدين ، والحكم فيه على عكس ذلك يستحلف عنده خلافا لهما بناء على أن الوكيل بقبض الدين يملك الخصومة عنده ، وقد تثبت الوكالة في حقه بإقراره ، كذا في العناية أخذا من النهاية .

وذكر في الكافي أنه إن دفع الغريم المال إلى الوكيل ثم أقام البينة على أنه ليس بوكيل أو أقام البينة على إقراره أن الطالب ما وكله لا تقبل ، ولو أراد أن يستحلفه على ذلك لا يحلف عليه لأن كل ذلك ينبني على دعوى صحيحة ولم توجد لكونه ساعيا في نقض ما أوجبه الغائب ، فإن أقام الغريم البينة على أن الطالب جحد الوكالة وقبض المال مني تقبل لأنه يثبت لنفسه حق الرجوع على الوكيل بناء على إثبات سبب انقطاع حق الطالب عن المدفوع وهو قبضه المال بنفسه ، فانتصب الحاضر خصما من الغائب في إثبات السبب فيثبت قبض الموكل فينتقض قبض الوكيل ضرورة ، وجاز أن يثبت الشيء ضمنا وضرورة ولا يثبت مقصودا ا هـ




الخدمات العلمية