الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ويستحلف في الغصب بالله ما يستحق عليك رده ولا يحلف بالله ما غصبت ) لأنه قد يغصب ثم يفسخ بالهبة والبيع ( وفي النكاح بالله ما بينكما نكاح قائم في الحال ) [ ص: 199 ] لأنه قد يطرأ عليه الخلع ( وفي دعوى الطلاق بالله ما هي بائن منك الساعة بما ذكرت ولا يستحلف بالله ما طلقها ) لأن النكاح قد يجدد بعد الإبانة فيحلف على الحاصل في هذه الوجوه ، لأنه لو حلف على السبب يتضرر المدعى عليه ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله . أما على قول أبي يوسف رحمه الله يحلف في جميع ذلك [ ص: 200 ] على السبب إلا إذا عرض بما ذكرنا فحينئذ يحلف على الحاصل . وقيل : ينظر إلى إنكار المدعى عليه إن أنكر السبب يحلف عليه ، وإن أنكر الحكم يحلف على الحاصل . فالحاصل هو الأصل عندهما إذا كان سببا يرتفع إلا إذا كان فيه ترك النظر في جانب المدعي فحينئذ يحلف على السبب بالإجماع ، وذلك أن تدعي مبتوتة نفقة العدة والزوج ممن لا يراها ، أو ادعى شفعة بالجوار والمشتري لا يراها ، لأنه لو حلف على الحاصل يصدق في يمينه في معتقده فيفوت النظر في حق المدعي ، وإن كان سببا لا يرتفع برافع فالتحليف على السبب بالإجماع ( كالعبد المسلم إذا ادعى العتق على مولاه ، [ ص: 201 ] بخلاف الأمة والعبد الكافر ) لأنه يكرر الرق عليها بالردة واللحاق وعليه بنقض العهد واللحاق ، ولا يكرر على العبد المسلم . .

التالي السابق


( ويستحلف في الغصب بالله ما يستحق عليه رده ) أي رد المدعي ( ولا يحلف بالله ما غصبت ) هذا أيضا من قول القدوري في مختصره . قال المصنف في تعليله ( لأنه قد يغصب ) أي قد يغصب الشيء ( ثم يفسخ ) أي يفسخ الغصب ( بالهبة والبيع ) فلو حلف المدعى عليه على السبب الذي هو الغصب هاهنا لتضرر به فيحلف على الحاصل لدفع الضرر عنه ( وفي النكاح بالله ما بينكما نكاح قائم في الحال ) وهذا أيضا من قول القدوري . وقال صاحب النهاية وأكثر الشراح : هذا على قولهما لما أن الاستحلاف في النكاح قولهما .

أقول : الأولى أن يقال هذا على قول محمد ، لأن الاستحلاف في النكاح مطلقا ، وإن كان يجري على قولهما معا إلا أن الاستحلاف فيه على الوجه المذكور وهو الاستحلاف على الحاصل إنما يجري على قول محمد فقط ، إذ الاستحلاف فيه على قول أبي يوسف إنما هو على السبب كما ينادي عليه قول المصنف فيما سيأتي ، أما على قول أبي يوسف يحلف في جميع ذلك على السبب . نعم سيقول المصنف هناك أيضا إلا إذا عرض [ ص: 199 ] بما ذكرنا فحينئذ يحلف على الحاصل ، لكن الكلام هنا في الاستحلاف على الحاصل مطلقا أي سواء عرض أو لم يعرض يدل عليه قطعا بيان الخلاف فيه بقوله وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، أما على قول أبي يوسف إلخ إذ لا خلاف في صورة التعريض . قال المصنف في التعليل ( لأنه قد يطرأ عليه الخلع ) أي يطرأ على النكاح الخلع ، فلو حلف على السبب الذي هو أصل النكاح هاهنا لتضرر به فحلف على الحاصل لدفع الضرر عنه ( وفي دعوى الطلاق بالله ما هي بائن منك الساعة بما ذكرت ولا يستحلف بالله ما طلقها ) وهذا أيضا من قول القدوري ، فكأنه زاد ذكر دعوى في هذه المسألة التي هي أخرى المسائل المتناسبة المذكورة هاهنا إيماء إلى أنها معتبرة في المسائل السابقة أيضا ، إلا أنها تركت فيها اعتمادا على انفهامها بمعونة المقام .

قال المصنف في تعليل هذه المسألة ( لأن النكاح قد يجدد بعد الإبانة ) وفرع على جملة ما ذكره في تلك المسائل قوله ( فيحلف على الحاصل في هذه الوجوه لأنه لو حلف على السبب لتضرر المدعى عليه ) على ما مر تقريره ( وهذا قول أبي حنيفة ومحمد ) أي التحليف على الحاصل في الوجوه المذكورة قولهما . قال بعض العلماء : هاهنا كلام وهو أنه لا يحلف في النكاح عند أبي حنيفة فلا يكون التحليف فيه على الحاصل عنده كما لا يخفى انتهى . أقول : هذا ظاهر ، ولكن الظاهر أيضا أن يحمل كلام المصنف هذا على التغليب : أي تغليب حكم سائر الوجوه على حكم وجه النكاح اعتمادا على ظهور عدم جريان الاستحلاف في النكاح مما مر .

ثم إن بعض الفضلاء قصد توجيه الكلام ودفع الاعتراض عن المقام حيث قال : أي التحليف على الحاصل قول أبي حنيفة ومحمد ، وليس معناه أن التحليف على الحاصل في جميع الأمور المذكورة قول أبي حنيفة حتى يعترض عليه بأنه مخالف لما سبق من أنه لا يحلف عنده في النكاح انتهى . أقول : لا يخفى على ذي فطرة سليمة أن قول المصنف أما على قول أبي يوسف يحلف في جميع ذلك على السبب يأبى ما قاله هذا القائل ، إذ قد صرح المصنف هاهنا بلفظ الجمع تعيينا لكون الخلاف بين أبي يوسف وصاحبيه في جميع الوجوه المذكورة لا في كيفية التحليف في الجملة فتدبر ( أما على قول أبي يوسف يحلف في جميع ذلك ) أي في جميع ما ذكر [ ص: 200 ] من الوجوه ( على السبب إلا إذا عرض بما ذكرنا ) أي إلا إذا عرض المدعى عليه بما ذكرناه من ارتفاع السبب .

وصفة التعريض أن يقول المدعى عليه للقاضي إذا عرض القاضي اليمين عليه بالله ما بعت أيها القاضي أن الإنسان قد يبيع شيئا ثم يقيل فيه ، وعلى هذا باقي أخوات البيع فتدبر ( فحينئذ يحلف على الحاصل ) أي فحينئذ يلزم القاضي الاستحلاف على حكم الشيء في الحال ، وصار العدول عن اليمين على مقتضى الدعوى حقا للمدعى عليه حين طالب به ، كذا في النهاية نقلا عن شرح الأقطع ( وقيل ينظر إلى إنكار المدعى عليه ) أي روي عنه إنه ينظر إلى إنكار المدعى عليه ( إن أنكر السبب يحلف عليه ، وإن أنكر الحكم يحلف على الحاصل ) وفي فتاوى قاضي خان : قال شمس الأئمة : هذا أحسن الأقاويل عندي وعليه أكثر القضاة .

وفي الكافي : قال فخر الإسلام : يفوض إلى رأي القاضي ( فالحاصل هو الأصل عندهما ) أي التحليف على الحاصل هو الأصل عندهما ( إذا كان سببا ) أي إذا كان سبب ذلك سببا ( يرتفع برافع إلا إذا كان فيه ) أي في التحليف على الحاصل ( ترك النظر في جانب المدعي فحينئذ يحلف على السبب بالإجماع ، وذلك ) أي ما كان في التحليف على السبب فيه ترك النظر في جانب المدعي ( مثل أن تدعي مبتوتة نفقة العدة والزوج ممن لا يراها ) أي لا يرى نفقة العدة للمبتوتة ( أو ادعى شفعة بالجوار والمشتري لا يراها ) بأن كان شافعيا ( لأنه لو حلف على الحاصل يصدق في يمينه في معتقده فيفوت النظر في حق المدعي ) فإن قيل : في التحليف على السبب ضرر بالمدعى عليه أيضا لجواز أنه اشترى ولا شفعة له بأن سلم أو سكت عن الطلب . قلنا : القاضي لا يجد بدا من إلحاق الضرر بأحدهما ، فكان مراعاة جانب المدعي أولى لأن السبب الموجب للحق وهو الشراء إذا ثبت يثبت الحق له ، وسقوطه إنما يكون بأسباب عارضة فيجب التمسك بالأصل حتى يقوم الدليل على العارض ، كذا ذكره الصدر الشهيد في أدب القاضي ، كذا في النهاية ومعراج الدراية ( وإن كان سببا ) أي إن كان سبب ذلك سببا ( لا يرتفع برافع فالتحليف على السبب بالإجماع كالعبد المسلم إذا ادعى العتق على مولاه ) وجحد المولى فإنه يحلف على السبب بالله ما أعتقه لأنه لا ضرورة إلى التحليف [ ص: 201 ] على الحاصل ، إذ لا يجوز أن يعود رقيقا بعد الإعتاق ، كيف ولو تصور عود الرق فإنما يتصور على تقدير وقوع الاستيلاء عليه بعد الارتداد .

ولا يمكن ذلك بالنسبة إلى العبد المسلم لأنه يقتل بالارتداد ( بخلاف الأمة والعبد الكافر ) حيث يحلف فيهما على الحاصل : أي ما هي حرة أو ما هو حر في الحال كذا في الكافي ( لأنه يكرر الرق عليها ) أي على الأمة ( بالردة واللحاق ) بدار الحرب والسبي ( وعليه ) أي ويكرر الرق على العبد الكافر ( بنقض العهد واللحاق ) بدار الحرب والسبي أيضا ( ولا يكرر على العبد المسلم ) لما ذكرناه آنفا .




الخدمات العلمية