الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 303 ] قال ( ومن ادعى نسب أحد التوأمين ثبت نسبهما منه ) لأنهما من ماء واحد ، فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر ، وهذا لأن التوأمين ولدان بين ولادتهما أقل من ستة أشهر فلا يتصور علوق الثاني حادثا لأنه لا حبل لأقل من ستة أشهر . وفي الجامع الصغير : إذا كان في يده غلامان توأمان ولدا عنده فباع أحدهما وأعتقه المشتري ثم ادعى البائع الذي في يده فهما ابناه وبطل عتق المشتري ; لأنه لما ثبت نسب الولد الذي عنده لمصادفة العلوق والدعوة ملكه إذ المسألة مفروضة فيه ثبت به حرية الأصل فيه فيثبت نسب الآخر ، وحرية الأصل فيه ضرورة لأنهما توأمان ، فتبين أن عتق المشتري وشراءه لاقى حرية الأصل فبطل ، [ ص: 304 ] بخلاف ما إذا كان الولد واحدا لأن هناك يبطل العتق فيه مقصودا لحق دعوة البائع وهنا ثبت تبعا لحريته فيه حرية الأصل فافترقا ( ولو لم يكن أصل العلوق في ملكه ثبت نسب الولد الذي [ ص: 305 ] عنده ، ولا ينقض البيع فيما باع ) لأن هذه دعوة تحرير لانعدام شاهد الاتصال فيقتصر على محل ولايته .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره : ( ومن ادعى نسب أحد التوأمين ) التوأم اسم للولد إذا كان معه آخر في بطن واحد ، يقال هما توأمان كما يقال هما زوجان ، وقولهم هما توأم وهما زوج خطأ ، ويقال للأنثى توأمة ، وكذا في المغرب . ولكن الإمام شمس الأئمة السرخسي ذكر في المبسوط أن ذكر التوأم مكان التوأمين صحيح في اللغة ، حتى لو قال : غلامان توأم ، وغلامان توأمان كلاهما صحيح عند أهل اللغة ، كذا في النهاية وغيرها ( ثبت نسبهما منه ) أي ثبت نسب التوأمين معا ممن ادعى نسب أحدهما ( لأنهما من ماء واحد ، فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر ) ، وهذا أي كونهما من ماء واحد ( لأن التوأمين ولدان بين ولادتهما أقل من ستة أشهر فلا يتصور علوق الثاني حادثا ) أي بعد ولادة الأول ( لأنه لا حبل لأقل من ستة أشهر ) لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، ولا يتصور علوق الثاني على علوق الأول لأنها إذا حبلت ينسد فم الرحم ، كذا في الكافي وغيره ، وكأن المصنف لم يتعرض لدفع هذا الاحتمال لكونه أمرا معلوما في غير هذا الفن ( وفي الجامع الصغير ) قال في العناية : ذكر رواية الجامع الصغير لاشتمالها على صورة بيع أحدهما ودعوى النسب في الآخر بعد إعتاق المشتري انتهى .

وقال في معراج الدراية : إنما أعاد لفظ الجامع لما فيه من زيادة وهي قوله ولدا عنده ، وفيه إشارة إلى كون العلوق في ملك المدعي انتهى ( إذا كان في يده غلامان توأمان ولدا عنده فباع أحدهما وأعتقه المشتري ثم ادعى البائع الذي في يده فهما ابناه وبطل عتق المشتري ) وإن كانت الرواية بكسر الراء فالعتق بمعنى الإعتاق وإن كانت بالفتح فلا حاجة إلى التأويل ، كذا في العناية . قال المصنف في التعليل ( لأنه لما ثبت نسب الولد الذي عنده لمصادفة العلوق والدعوة ملكه إذ المسألة مفروضة فيه ) أي في أن يصادف العلوق والدعوة ملكه ، فإن في قوله : ولدا عنده إشارة إلى مصادفة العلوق ملكه ، وفي قوله : ثم ادعى البائع الذي في يده تصريح بمصادفة الدعوى ملكه ( ثبت به حرية الأصل ) جواب لما ثبت نسب الولد الذي عنده : أي ثبت حرية الأصل في هذا الولد ( فيثبت نسب الآخر ) أي فيثبت نسب الولد الآخر الذي كان باعه وأعتقه المشتري ( وحرية الأصل فيه ) أي ويثبت حرية الأصل في ذلك الولد أيضا ( ضرورة لأنهما توأمان ) وهما من ماء واحد ( فتبين أن عتق المشتري وشراءه لاقى حر الأصل فبطل ) أي فبطل كل واحد من عتقه وشرائه .

قال في الكافي : وكان هذا نقض الإعتاق بأمر [ ص: 304 ] فوقه وهي الحرية الثابتة بأصل الخلقة انتهى ( بخلاف ما إذا كان الولد الواحد ) حيث لا يبطل فيه إعتاق المشتري بدعوى البائع نسبة كما مر ( لأن هناك ) أي في مسألة الولد الواحد ( يبطل العتق فيه ) أي في الولد ( مقصودا ) يعني لو صحت الدعوة من البائع هناك لبطل العتق في الولد مقصودا ( لحق دعوة البائع ) وأنه لا يجوز لما تقدم أن حق الدعوة لا يعارض حقيقة الإعتاق ( وهاهنا ) أي في مسألة التوأمين ( يثبت تبعا لحريته فيه حرية الأصل ) أي يثبت بطلان إعتاق المشتري فيما اشتراه تبعا لحريته حرية الأصل لا حرية التحرير ، فالضمير في حريته راجع إلى المشترى بالفتح . وقوله فيه متعلق بقوله : يثبت ، والضمير راجع إلى المشترى كذلك .

وقوله حرية الأصل بدل من قوله لحريته ، وإنما أبدل به إشارة إلى سبقها ليتبين بذلك أن البيع لم يكن صحيحا فالإعتاق لم يصادف محله فكان خليقا بالرد والإبطال ، كذا في العناية .

أقول : هذا شرح صحيح ، إلا أنه يكون في كلام المصنف حينئذ تعقيد لفظي بالتقديم والتأخير حيث كان حق الأداء على هذا المعنى أن يقال : وهاهنا يثبت فيه تبعا لحريته حرية الأصل كما لا يخفى ، وكأن متقدمي الشراح هربوا عنه حيث قال صاحبا النهاية والكفاية في بيان معنى كلام المصنف هاهنا : أي يثبت بطلان إعتاق المشتري بطريق التبعية لحرية المشترى الذي كانت الحرية فيه حرية الأصل انتهى . وقال صاحب غاية البيان : يعني فيما نحن فيه يثبت بطلان إعتاق المشتري لا مقصودا بل لثبوت الحرية الأصلية الثابتة في الذي باعه ا هـ .

فإن الظاهر مما بينوا من المعنى أن لا يكون قول المصنف فيه متعلقا بقوله يثبت بل أن يكون متعلقا بمقدر وهو الكائنة أو الثابتة على أنه صفة لحريته فلا يلزم التعقيد أقول : لعل المحذور فيه أشد من الأول ، فإن الحرية بعد أن تضاف إلى الضمير الراجع إلى المشترى لا يبقى احتمال أن لا يكون قول المصنف فيه متعلقا بقوله : تثبت ، وإلا فيلزم أن يكون قول المصنف فيه على المعنى الذي ذكروه لغوا من الكلام وإنما يتم ذلك المعنى أن لو كان كلام المصنف وهاهنا يثبت تبعا للحرية فيه بدون الإضافة كما لا يخفى ( فافترقا ) أي فافترق ما نحن فيه من مسألة التوأمين ، وما إذا كان الولد واحدا حيث لزم بطلان العتق هناك أصالة وقصدا ، وفيما نحن فيه ضمنا وتبعا ، وكم من شيء يثبت ضمنا وتبعا ولا يثبت أصالة وقصدا .

قال في معراج الدراية : إلى هذا أشار قاضي خان والمرغيناني في فوائده والسرخسي في جامعه . وقال في النهاية بعد شرح كلام المصنف على هذا المنوال : أو نقول في مسألتنا لا يبطل عتق المشتري الذي يثبت منه بل يظهر بدعوة البائع لما في يده من أحد التوأمين أن إعتاق المشتري لم يلاق محله لأنه ظهر أنه كان حر الأصل ، وتحرير الحر باطل ; لأن فيه إثبات الثابت ، وذلك لا يصح كما ذكرناه من الفوائد الظهيرية ( فلو لم يكن أصل العلوق في ملكه ) يعني أن الذي ذكر من قبل إذا كان أصل العلوق في ملك المدعي ولو لم يكن أصل العلوق في ملكه والمسألة بحالها ( ثبت نسب الولد الذي [ ص: 305 ] عنده ) أي ثبت نسب الولد الذي عند البائع بمصادفة الدعوة ملكه فيثبت النسب للولد الآخر أيضا ضرورة لأن التوأمين لا ينفكان نسبا ( ولا ينقض البيع فيما باع ) ولا يبطل عتق المشتري فيه ( لأن هذه ) أي لأن دعوة البائع هاهنا ( دعوة تحرير ) لا دعوة استيلاد ( لانعدام شاهد الاتصال ) أي لانعدام شاهد اتصال العلوق بملك المدعي حيث لم يكن أصل العلوق في ملكه ، ومن شرط دعوة الاستيلاد اتصال العلوق بملك المدعي ( فيقتصر على محل ولايته ) أي إذا كانت هذه دعوة تحرير فيقتصر على محل ولاية المدعي وصار كأن البائع أعتقهما فيعتق من في ملكه عليه فحسب ، وليس من ضرورة حرية أحد التوأمين بعتق عارض حرية الآخر فلهذا لا يعتق الذي عنده المشتري على البائع ، وكذا في الكافي .

وقال كثير من الشراح في شرح قول المصنف لأن هذه دعوة تحرير إلخ ; لأنه لما لم يكن أصل علوقهما في ملك البائع كانت دعوته دعوة تحرير فكان قوله : هذا ابني مجازا عن قوله : هذا حر ، ولو قال لأحد التوأمين : هذا حر كان تحريرا مقتصرا على محل ولايته ، فكذا دعوة التحرير ، أقول : يرد على قولهم فكان قوله : هذا ابني مجازا عن قوله : هذا حر أنه لو كان كذلك لما ثبت نسب أحد من الوالدين منه لأن المصير إلى المجاز عند تعذر إعمال الحقيقة ، وقد صرحوا بثبوت نسبهما منه . وتفصيل المقام أنه قد مر في كتاب العتاق أنه إذا قال لعبد يولد مثله لمثله : هذا ابني ، فإن لم يكن للعبد نسب معروف يثبت نسبه منه لأن ولاية الدعوة بالملك ثابتة والعبد محتاج إلى النسب فيثبت منه . وإذا ثبت عتق لأنه يستند النسب إلى وقت العلوق ، فإن كان له نسب معروف لا يثبت نسبه منه للتعذر ويعتق إعمالا للفظ في مجازه عند تعذر إعماله في حقيقته ، وإن قال لغلام لا يولد مثله لمثله : هذا ابني عتق عند أبي حنيفة ، وقالا : لا يعتق وهو قول الشافعي . لهم أنه كلام محال فيرد ويلغو .

ولأبي حنيفة أنه محال بحقيقته لكنه صحيح بمجازه لأنه إخبار عن حريته من حين ملكه وهذا لأن البنوة في المملوك سبب لحريته وإطلاق السبب وإرادة المسبب مستجاز في اللغة تجوزا ، ولأن الحرية ملازمة للبنوة في المملوك والمشابهة في وصف ملازم من طرق المجاز على ما عرف فيحمل عليه تحرزا عن الإلغاء انتهى .

فقد تلخص من ذلك كله أن ثبوت النسب فيما إذا قال لغلام : هذا ابني إنما يكون في صورة واحدة من الصور الثلاث المذكورة وهي : أن يكون الغلام ممن ولد مثله لمثله ولا يكون معروف النسب ولكن يجري اللفظ في هذه الصورة على حقيقته . وأما في الصورتين الأخريين فيصير اللفظ محمولا على مجازه لكن لا يثبت النسب فيهما فلم توجد صورة فيها النسب ويكون اللفظ مجازا فلم يصح ما قاله هؤلاء الشراح .




الخدمات العلمية