الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( وإن أقام الخارج البينة على ملك مؤرخ وصاحب اليد بينة على ملك أقدم تاريخا كان أولى ) وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهو رواية عن محمد . وعنه أنه لا تقبل بينة ذي اليد رجع إليه لأن البينتين قامتا على مطلق الملك ولم يتعرضا لجهة الملك فكان التقدم والتأخر سواء . [ ص: 263 ] ولهما أن البينة مع التاريخ متضمنة معنى الدفع ، فإن الملك إذا ثبت لشخص في وقت فثبوته لغيره بعده لا يكون إلا بالتلقي من جهته وبينة ذي اليد على الدفع مقبولة ، وعلى هذا الخلاف لو كانت الدار في أيديهما والمعنى ما بينا ، ولو أقام الخارج وذو اليد البينة على ملك مطلق ووقتت إحداهما دون الأخرى فعلى قول أبي حنيفة ومحمد الخارج أولى .

وقال أبو يوسف وهو رواية عن أبي حنيفة : صاحب الوقت أولى لأنه أقدم وصار كما في دعوى الشراء إذا أرخت إحداهما كان صاحب التاريخ أولى . ولهما أن بينة ذي اليد إنما تقبل [ ص: 264 ] لتضمنها معنى الدفع ، ولا دفع هاهنا حيث وقع الشك في التلقي من جهته ، وعلى هذا إذا كانت الدار في أيديهما ولو كانت في يد ثالث ، [ ص: 265 ] المسألة بحالها فهما سواء عند أبي حنيفة . وقال أبو يوسف : الذي وقت أولى . وقال محمد : الذي أطلق أولى لأنه ادعى أولية الملك بدليل استحقاق الزوائد ورجوع الباعة بعضهم على البعض . ولأبي يوسف أن التاريخ يوجب الملك في ذلك الوقت بيقين . والإطلاق يحتمل غير الأولية ، والترجيح بالتيقن ; كما لو ادعيا الشراء . ولأبي حنيفة أن التاريخ يضامه احتمال عدم التقدم فسقط اعتباره فصار كما لو أقاما البينة على ملك مطلق ، بخلاف الشراء لأنه أمر حادث فيضاف إلى أقرب الأوقات فيترجح جانب صاحب التاريخ .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( وإن أقام الخارج البينة على ملك مؤرخ ، وصاحب اليد البينة على ملك أقدم تاريخا كان أولى ) أي كان صاحب اليد أولى . قال المصنف ( وهذا ) أي هذا الحكم ( عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهو رواية عن محمد وعنه ) أي عن محمد ( أنه لا تقبل بينة ذي اليد رجع إليه ) يعني أن هذا قوله الآخر المرجوع إليه .

وفي المبسوط ذكر ابن سماعة في نوادره عن محمد أنه رجع عن هذا القول ، وهو أن بينة ذي اليد إذا كانت أقدم تاريخا من بينة الخارج كانت أولى ; بعد انصرافه من الرقة . وقال : لا أقبل من ذي اليد بينة على تاريخ ولا غيره إلا للنتاج وما في معناه ; لأن التاريخ ليس بسبب لأولية الملك بخلاف النتاج ، كذا في النهاية ومعراج الدراية . قال المصنف في تعليل ذلك ( لأن البينتين قامتا على مطلق الملك ولم تتعرضا لجهة الملك فكان التقدم والتأخر سواء ) قال بعض الفضلاء : هذا يحتاج إلى البيان .

أقول : في البيان لما لم تتعرض البينتان لجهة الملك وجاز أن تكون جهة الملك : أي سببه في حق صاحب التاريخ المؤخر أقدم في نفس الأمر فيكون صاحب التاريخ المؤخر أسبق من الآخر في الملك لتقدم سبب ملكه على سبب [ ص: 263 ] ملك الآخر ، بخلاف ما إذا قامت البينتان بالتاريخ على الشراء وإحداهما أسبق من الأخرى حيث كان الأسبق أولى لتعرضه لسبق سبب ملك أحد المشتريين وهو الشراء فلم يبق احتمال أن يكون الآخر أسبق في الملك ( ولهما ) أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف ( أن البينة مع التاريخ متضمنة معنى الدفع ، فإن الملك إذا ثبت لشخص في وقت فثبوته لغيره بعده لا يكون إلا بالتلقي من جهته وبينة ذي اليد على الدفع مقبولة ) فإن من ادعى على ذي اليد عينا وأنكر ذو اليد ذلك وأقام البينة أنه اشتراه منه تندفع الخصومة ، وقد مر قبل هذا قبول بينة ذي اليد في أن العين في يده وديعة حتى يندفع عنه دعوى المدعي عند إقامة البينة ، ولما قبلت بينة ذي اليد على الدفع صارت هاهنا بينة ذي اليد بذكر التاريخ الأقدم متضمنة دفع بينة الخارج على معنى أنها لا تصح إلا بعد إثبات التلقي من قبله فتقبل لكونها للدفع كذا في النهاية والعناية ( وعلى هذا الخلاف لو كانت الدار في أيديهما ) أي لو كانت الدار في أيديهما كان صاحب الوقت الأول أولى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، وفي قول محمد : لا يعتبر الوقت وكأنهما قامتا على مطلق الملك فتكون بينهما ، كذا في النهاية نقلا عن الإيضاح ( والمعنى ما بيناه ) وهو ما ذكره من الدليل في الطرفين ( ولو أقام الخارج وذو اليد البينة على ملك مطلق ) أي من غير ذكر سبب ( ووقتت إحداهما ) أي إحدى البينتين ( دون الأخرى ) فعلى قول أبي حنيفة ومحمد الخارج أولى .

وقال أبو يوسف وهو رواية عن أبي حنيفة : ( صاحب الوقت أولى ) إنما قيد بالتوقيت ; لأن الخارج وذا اليد إذا أقاما بينة على الملك المطلق بلا ذكر تاريخ لا تقبل بينة ذي اليد عند علمائنا كلهم ، وإنما وقع الاختلاف بين علمائنا في دعوى الملك المطلق بين الخارج وذي اليد عند ذكر التاريخ ، كذا في النهاية ومعراج الدراية ( لأنه أقدم ) دليل على ما قاله أبو يوسف : أي لأن صاحب الوقت أقدم ( وصار كما في دعوى الشراء ) أي صار الجواب في هذه المسألة كالجواب في دعوى الشراء ( إذا أرخت إحداهما ) أي إذا أرخت إحدى البينتين هناك ( كان صاحب التاريخ أولى ) فكذا هنا .

والجواب أن الشراء معنى حادث ، فإذا لم يؤرخ حكم بوقوعه في الحال وكان المقدم أولى منه ، والملك ليس بمعنى حادث فلا يحكم بوقوعه في الحال . كذا في غاية البيان ( ولهما ) أي ولأبي حنيفة ومحمد ( أن بينة ذي اليد إنما تقبل [ ص: 264 ] لتضمنه ) أي لتضمن البينة بتأويل الشاهد ( معنى الدفع ) لما مر آنفا ( ولا دفع هاهنا حيث وقع الشك في التلقي من جهته ) أي من جهة ذي اليد لأن بذكر تاريخ إحداهما لم يحصل اليقين بأن الآخر تلقاه من جهته لاحتمال أن الأخرى لو وقتت كان أقدم تاريخا ، بخلاف ما إذا أرخا وكان تاريخ ذي اليد أقدم كما تقدم . قال صاحب العناية : قيل الاستدلال بقوله : إن بينة ذي اليد إنما تقبل لتضمنه معنى الدفع لا يستقيم لمحمد ; لأنه لا يقول بذلك إلا لزمه المسألة الأولى . وأجيب بأن ذلك يجوز أن يكون على قوله الأول انتهى . واعترض عليه بعض الفضلاء حيث قال : فيه بحث . فإن أولوية الخارج على قوله الآخر الذي لا يعتبر فيه التاريخ نص عليه العلامة الأتقاني في غاية البيان فراجعه انتهى .

أقول : هذا الاعتراض ليس بشيء ، إذ ليس مراد المجيب أن قول محمد في مسألتنا هذه : أعني أولوية الخارج فيما إذا وقتت إحداهما دون الأخرى يجوز أن يكون قوله الأول حتى ينافيه نص العلامة الأتقاني على أنه قوله الآخر ، بل مراده أن قول المصنف : إن بينة ذي اليد إنما تقبل لتضمنه معنى الدفع بصدد الاستدلال على قول أبي حنيفة ومحمد في مسألتنا هذه يجوز أن يكون مبنيا على قول محمد الأول في المسألة الأولى فلا يلزمه المسألة الأولى على قوله الثاني هناك .

وتوضيح المقام أن لمحمد في مسألتنا هذه قولين : قول الأول أنه يقضي للذي لم يؤقت ، وهذا مبني على اعتبار التاريخ حالة الانفراد على خلاف ما عليه أبو حنيفة . ووجهه أن غير المؤقت أسبقهما تاريخا باعتبار المعنى وهو دعوى أولية الملك . وقوله الآخر أن الخارج أولى ، وهذا مبني على أنه لا عبرة بالتاريخ فكان المؤقت لم يؤقت فتكون بينة الخارج أولى لكونها أكثر إثباتا على ما هو المعروف من مذهبنا وهو في قوله الآخر في هذه المسألة مع أبي حنيفة ، كما أنه في قوله الأول في المسألة الأولى معه وهذا كله مما يفصح عنه ما ذكر في غاية البيان نقلا عن مبسوط شيخ الإسلام .

فإذا عرفت هذا فنقول : لو أريد الاستدلال على قول محمد الثاني في هذه المسألة مع رعاية قول الثاني في المسألة الأولى لم يحتج إلى ذكر المقدمة القائلة إن بينة ذي اليد إنما تقبل لتضمنها معنى الدفع ، بل كفى أن يقال : إن بينة ذي اليد لا تقبل عنده أصلا في غير النتاج وما في معناه لما مر له من الدليل في المسألة الأولى ، ولكن المصنف لما قصد الجمع بين أبي حنيفة ومحمد في دليل واحد ليستغنى عن ذكر دليل آخر لمحمد استدل على قول أبي حنيفة وقول محمد الآخر في هذه المسألة مما يجمعهما مراعيا قول أبي حنيفة وقول محمد الأول في المسألة الأولى فاحتاج إلى ذكر تلك المقدمة ، وهذا هو المراد بالجواب الذي ذكره صاحب العناية ، فأين هذا مما فهمه المعترض عليه . وقال ذلك البعض .

ويجوز أن تكون النكتة لأبي حنيفة . ووجه محمد غير مذكور هنا ، وقوله لهما من قبيل { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } ا هـ .

أقول : لا يخفى على ذي فطرة سليمة أن مثل هذا التوجيه في مثل هذا المقام أمر مستبعد جدا من وجوه شتى فتبصر ( وعلى هذا ) أي الخلاف المذكور ( إذا كانت الدار في أيديهما ) وأقاما البينة على الملك المطلق فوقتت بينة أحدهما دون بينة الآخر : يعني لا عبرة للتاريخ عندهما ، والمراد للمؤرخ عند أبي يوسف ( ولو كانت في يد ثالث ) أي ولو كانت الدار المدعاة في يد ثالث [ ص: 265 ] والمسألة بحالها ) أي وقتت بينة أحد الخارجين في الملك المطلق دون الأخرى .

( فهما سواء ) أي فالخارجان سواء : يعني يقضي بينهما نصفين ( عند أبي حنيفة . وقال أبو يوسف : الذي وقت أولى . وقال محمد : الذي أطلق ) أي لم يؤقت ( أولى لأنه ) أي الإطلاق ( دعوى أولية الملك بدليل استحقاق الزوائد ) كالأولاد والأكساب ( ورجوع الباعة بعضهم على بعض ) أي وبدليل رجوع الباعة بعضهم على بعض ، فإن من أقام بينة على مطلق الملك في جارية مثلا واستحقها وزوائدها يرجع باعتها بعضهم على بعض فكان مدعي مطلق الملك كان مدعيا للملك من الأصل ، وملك الأصل أولى من التاريخ ( ولأبي يوسف أن التاريخ يوجب الملك في ذلك الوقت بيقين ، والإطلاق يحتمل غير الأولية ، والترجيح بالتيقن ) يعني أن العمل بالمتيقن راجح على العمل بالمحتمل ( كما لو ادعيا الشراء ) أي ادعياه من بائع واحد وأرخ أحدهما دون الآخر كان صاحب التاريخ أولى كما مر ( ولأبي حنيفة أن التاريخ يضامه ) أي يزاحمه ( احتمال عدم التقدم فسقط اعتباره ) أي اعتبار التاريخ : يعني أنه يحتمل أن يكون تاريخ الذي أرخ سابقا على تاريخ صاحبه ، ويحتمل أن يكون متأخرا عنه ، فنزلناه مقارنا له رعاية للاحتمالين ، كذا في شرح تاج الشريعة وغيره ( فصار ) أي فصار حكم هذه المسألة ( كما لو أقاما البينة على ملك مطلق ) أي بدون أن يذكر التاريخ أصلا ( بخلاف الشراء ) جواب عن قول أبي يوسف كما لو ادعيا الشراء ( لأنه ) أي الشراء ( أمر حادث فيضاف إلى أقرب الأوقات ) وهو الحال ( فيترجح جانب صاحب التاريخ ) لكون شراء صاحب التاريخ حينئذ سابقا على شراء الآخر من زمان التاريخ لا محالة .

أقول : الآن حصحص الحق من المصنف فإنه كان قد استدل على مسألة الشراء فيما مر بما هو في سمت دليل أبي يوسف هاهنا وكنت استشكلته هناك ، واخترت ما ذكره صاحب الكافي هناك ، موافقا لما ذكره المصنف في خاتمة الكلام هاهنا فتذكر




الخدمات العلمية