الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وكذلك النسج في الثياب التي لا تنسج إلا مرة ) كغزل القطن [ ص: 270 ] وكذلك كل سبب في الملك لا يتكرر ) لأنه في معنى النتاج كحلب اللبن واتخاذ الجبن واللبد والمرعزى وجز الصوف ، وإن كان يتكرر قضي به للخارج بمنزلة الملك المطلق [ ص: 271 ] وهو مثل الخز والبناء والغرس وزراعة الحنطة والحبوب ، فإن أشكل يرجع إلى أهل الخبرة لأنهم أعرف به ، فإن أشكل عليهم قضي به للخارج لأن القضاء ببينته هو الأصل والعدول عنه بخبر النتاج ، [ ص: 272 ] فإذا لم يعلم يرجع إلى الأصل .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( وكذلك النسيج ) أي النسج كالنتاج في أنه لا يتكرر ، وكل حكم عرفته في النتاج فهو في النسيج كذلك . وصورة المسألة : إذا ادعى رجل ثوبا في يد رجل أنه ملكه بأنه نسجه في ملكه وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك قضي بالثوب لصاحب اليد ، كذا في النهاية ( في الثياب التي لا تنسج إلا مرة واحدة كغزل القطن ) هذا احتراز عن الثياب التي تنسج مرة بعد أخرى كالخز .

وفي المبسوط : النسخ في الثوب موجب لأولية الملك فيه وهو [ ص: 270 ] مما لا يتكرر كالنتاج في الداية ، إلا أن يكون الثوب بحيث ينسج مرة بعد أخرى كالخز ينسج ثم ينكث فيغزل وينسج ثانيا فحينئذ يقضي للخارج ( وكذلك كل سبب في الملك لا يتكرر لأنه في معنى النتاج ) قد تقدم أن القياس في دعوى النتاج ما ذهب إليه ابن أبي ليلى من أن بينة الخارج أولى ، وأن ما ذهبنا إليه من كون بينة ذي اليد أولى استحسان تركنا القياس فيه بالسنة ، وهي حديث جابر رضي الله عنه كما روينا من قبل فلا يلحق بالنتاج إلا ما كان في معناه من كل وجه ، وكل ما لا يتكرر من أسباب الملك فهو في معناه من كل وجه فيلحق به بدلالة النص ( كحلب اللبن واتخاذ الجبن واللبد ) أي واتخاذ اللبد ( والمرعزى ) أي وجز المرعزى إذا شددت الزاي قصرت وإذا خففت مددت ، والميم والعين مكسورتان .

وقد يقال : مرعزاء بفتح الميم مخففا ممدودا وهي كالصوف تحت شعر العنز ، كذا في المغرب ( وجز الصوف ) فإذا ادعى كل واحد من الخارج وذي اليد لبنا أنه ملكه حلبه من شاته ، أو ادعى جبنا أنه ملكه صنعه في ملكه ، أو ادعى لبدا أنه ملكه صنعه في ملكه ، أو ادعى مرعزى أنها ملكه جزها من عنزه ، أو ادعى صوفا أنه ملكه جزه من غنمه وأقاما على ذلك بينة فإنه يقضي بذلك لذي اليد في هذه الصور كلها ; لأن أسباب الملك فيها لا تكون إلا مرة واحدة فكانت في معنى النتاج من كل وجه فألحقت به ( وإن كان يتكرر ) أي وإن كان سبب الملك يتكرر ( قضي به للخارج بمنزلة الملك المطلق ) قال صاحب النهاية : والمعنى فيه أن الثوب الذي ينسج مرة بعد مرة يجوز أن يصير لذي اليد بالنسج ثم يغصبه الخارج وينقضه وينسجه مرة أخرى فيصير ملكا له بهذا السبب بعد ما كان ملكا لذي اليد فكان بمعنى دعوى الملك المطلق من هذا الوجه ، بخلاف الفصل الأول فإن الثوب الذي لا ينسج إلا مرة إذا صار لذي اليد ينسجه لا يتصور أن يصير للخارج بنسجه فكان في معنى دعوى النتاج انتهى .

وقال بعض الفضلاء : فيه بحث . أما أولا فلأن السبب يراد لحكمه كما سيجيء بعد أسطر . وأما ثانيا فلأنه يلزم نقض اليد الثابتة بالشك انتهى . أقول : كلا بحثيه ساقط جدا . أما الأول فلأنه لا يقضي هاهنا بالبينتين بناء على اعتبار السببين حتى يقال : إن السبب يراد لحكمه وهو الملك ولم يثبت الملك بالنسبة إلى ذي اليد حيث كان المدعى للخارج ; بل إنما يقضي هاهنا ببينة الخارج فقط بناء على كونها أكثر [ ص: 271 ] إثباتا كما في الملك المطلق فلم يعتبر إلا سبب واحد هو الخارج ، بخلاف ما سيجيء بعد أسطر حيث يقضي هناك على قول محمد بالبينتين على اعتبار السببين ويكون المدعى للخارج ; فيتجه عليه من قبل الإمامين أن يقال : إن السبب يراد لحكمه وهو الملك ، وحيث لم يثبت الملك لذي اليد لم يكن السبب مفيدا لحكمه بالنسبة إليه فلم يعتبر ، وسيتضح لك الأمر هناك إن شاء الله تعالى .

وأما الثاني فلأن ما ذكره صاحب النهاية من المعنى ليس علة للقضاء للخارج فيما يتكرر من الأسباب حتى يقال : كيف تنقض اليد الثابتة بالمحتمل المشكوك ، بل هو مجرد بيان كون الدعوى بسبب يتكرر في معنى دعوى الملك المطلق دون دعوى النتاج حيث لا يدل السبب الذي يتكرر على أولية الملك كالنتاج ، بل يحتمل أن يثبت به الملك أولا وثانيا كالملك المطلق ، وإنما علة القضاء للخارج بعد تقرر ذلك المعنى كون بينة الخارج أكثر إثباتا من بينة ذي اليد كما تحقق في مسألة دعوى الملك المطلق ولا حاجة إلى بيانه هاهنا ، ومفاسد قلة التأمل مما يضيق عن الإحاطة به نطاق البيان ، واستشكل ذلك البعض قول المصنف وإن كان يتكرر قضي به للخارج حيث قال فيه : إن الشراء سبب يتكرر مع أن بينة ذي اليد أولى فلا بد من الفرق . أقول : إذا ادعى الخارج الشراء من رجل وادعاه ذو اليد من رجل آخر فالحكم فيه كحكم ما إذا ادعيا الملك المطلق فلا تفاوت بينهما على ما صرح به في عامة المعتبرات ، وذكره الشارح الأتقاني فيما مر نقلا عن مبسوط شيخ الإسلام فلا اشتباه هناك .

وأما إذا ادعيا الشراء من واحد فبينة ذي اليد أولى كما مر في الكتاب . فوجه الفرق بينه وبين ما نحن فيه هو أن كلا من الخارج وذي اليد هناك أثبت ببينته الاستحقاق على ثالث حيث ادعيا تلقي الملك من جهته كما صرحوا به ، فكان ما ادعياه سبب الاستحقاق على الغير لا سبب الملك وحده فلم يكن معنى الملك المطلق ، بخلاف ما نحن فيه ، ولعل في كلام المصنف إيماء إلى ذلك حيث قال : وكذلك كل سبب في الملك لا يتكرر ، ثم قال : وإن كان يتكرر قضي به للخارج فاعتبر اختلاف حكمي ما يتكرر وما لا يتكرر في سبب الملك احترازا عن سبب الاستحقاق ( وهو ) أي السبب المتكرر في الملك ( مثل الخز ) أي مثل نسج الخز : وهو اسم دابة ثم سمي الثوب المتخذ من وبره خزا ، كذا في المغرب .

قيل : هو ينسج فإذا بلي يغزل مرة أخرى وينسج ( والبناء والغرس وزراعة الحنطة والحبوب ) أي وزراعة الحنطة وسائر الحبوب ، فإذا ادعى كل واحد من الخارج وذي اليد ثوبا أنه ملكه نسجه من خزه ، أو ادعى دارا أنها ملكه بناها بماله أو ادعى غرسا أنه ملكه غرسه . أو ادعى حنطة أنها ملكه زرعها أو حبا آخر من الحبوب كذلك وأقاما على ذلك بينة قضي بذلك للخارج في هذه الصور كلها لأن أسباب الملك فيها ليست في معنى النتاج لتكررها أما الخز فلما نقلناه ، وأما البناء فلأنه يكون مرة بعد أخرى ، وأما الغرس فكذلك ، وأما الحنطة والحبوب فلأنها تزرع ثم يغربل التراب فتتميز الحنطة والحبوب ثم تزرع ثانية ، فإذا لم تكن في معناه لم تلحق به بل صارت بمنزلة الملك المطلق ( فإن أشكل ) أي فإن أشكل شيء لا يتيقن بالتكرار وعدمه فيه ( يرجع إلى أهل الخبرة ) أي يسأل القاضي أهل العلم عن ذلك : يعني العدول منهم ويبني حكمه على قولهم ( لأنهم أعرف به ) قال الله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } الواحد منهم يكفي والاثنان أحوط وكذا في النهاية نقلا عن المبسوط والذخيرة ( فإن أشكل عليهم ) أي فإن أشكل ذلك على أهل الخبرة أيضا ( قضي به ) أي بالمشكل ( للخارج لأن القضاء ببينته ) أي بينة الخارج ( هو الأصل ) لأنه القياس ( والعدول عنه بخبر النتاج ) أي والعدول عن الأصل كان بخبر النتاج : أي بحديث النتاج ، وهو حديث جابر رضي الله عنه كما رويناه من قبل في وجه الاستحسان [ ص: 272 ] فإذا لم يعلم يرجع إلى الأصل ) الذي هو القياس .




الخدمات العلمية