الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 123 ] قال ( ومن كفل بمال عن رجل فوكله صاحب المال بقبضه عن الغريم لم يكن وكيلا في ذلك أبدا ) لأن الوكيل من يعمل لغيره ، ولو صححناها صار عاملا لنفسه في إبراء ذمته فانعدم الركن [ ص: 124 - 125 ] ولأن قبول قوله ملازم للوكالة لكونه أمينا ، ولو صححناها لا يقبل لكونه مبرئا نفسه فينعدم بانعدام لازمه ، وهو نظير عبد مديون أعتقه مولاه حتى ضمن قيمته للغرماء ويطالب العبد بجميع الدين ، فلووكله الطالب بقبض المال عن العبد كان باطلا لما بيناه

التالي السابق


. ( قال ) أي محمد في الجامع الصغير ( ومن كفل بمال عن رجل فوكله صاحب المال بقبضه ) أي بقبض المال ( عن الغريم لم يكن وكيلا في ذلك ) أي لم يكن الكفيل وكيلا في قبض المال عن الغريم ( أبدا ) أي لا بعد براءة الكفيل ولا قبلها ، حتى لو هلك المال في يده لم يهلك على الموكل ، أما بعد البراءة فلأنها لما لم تصح حال التوكيل لما سيذكر لم تنقلب صحيحة كمن كفل لغائب فأجازها بعدما بلغته فإنها لا تجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ; لأنها لم تصح ابتداء لعدم القبول فلا تنقلب صحيحة ، وأما قبل البراءة فلما ذكره بقوله ( لأن الوكيل من يعمل لغيره ) وهو ظاهر والكفيل ليس من يعمل لغيره فإنه عامل لنفسه في إبراء ذمته ( ولو صححناها ) أي ولو صححنا الوكالة فيما نحن فيه ( صار ) أي صار الوكيل ( عاملا لنفسه في إبراء ذمته ) لأن قبضه يقوم مقام قبض الموكل وبقبضه تبرأ ذمة الكفيل فكذا بقبض وكيله ( فانعدم الركن ) أي ركن الوكالة وهو العمل للغير فانعدم عقد الوكالة لانعدام ركنه وصار [ ص: 124 ] هذا كالمحتال إذا وكل المحيل بقبض الدين من المحتال عليه لا يصير وكيلا لما قلنا . فإن قيل : يشكل هذا برب الدين إذا وكل المديون بإبراء نفسه عما عليه من الدين فإنه يصح نص عليه في الجامع الكبير ، وإن كان المديون في إبراء نفسه ساعيا في فكاك رقبته .

قلنا : ذكر شيخ الإسلام في تعليل هذه المسألة أن المديون لا يصلح وكيلا عن الطالب بإبراء نفسه على خلاف ما ذكر في الجامع فكان للمنع فيه مجال ، كذا في الفوائد الظهيرية . ولئن سلمنا ذلك فنقول : إن الإبراء تمليك بدليل أنه يرتد بالرد ، فلا يرد علينا نقضا لأن كلامنا في التوكيل لا في التمليك ، كذا في النهاية وأكثر الشروح . أقول : في الجواب نظر ، أما في المنعي فلأن ما ذكر شيخ الإسلام كيف يصلح للمعارضة لما نص عليه محمد في الجامع حتى يكون للمنع فيه مجال ، وأما في التسليمي فلأن النقض ليس بنفس الإبراء بل بالتوكيل بالإبراء ، فما معنى قولهم إن كلامنا في التوكيل لا في التمليك على أن المنقوض هاهنا ليس نفس المسألة بل دليلها المذكور فإنه جار بعينه في صورة توكيل المديون بإبراء نفسه عما عليه من الدين مع تخلف الحكم وهو عدم الصحة هناك فلا فائدة في دفع ذلك للفرق المذكور أصلا كما لا يخفى .

اللهم إلا أن يقال : مرادهم أن التوكيل بالإبراء في الصورة المذكورة تمليك حقيقة وإن كان توكيلا صورة ، وكلامنا في التوكيل الحقيقي لا فيما هو توكيل صورة تمليك حقيقة ، والدليل المذكور أيضا إنما يجري في التوكيل الحقيقي لأن كون الوكيل عاملا لغيره إنما هو في ذلك ، ويميل إلى هذا التوجيه تقرير صاحب الكافي في الجواب عن السؤال المذكور حيث قال : فإن قيل : الدائن إذا وكل المديون بإبراء نفسه عن الدين يصح نص عليه في الجامع ، وإن كان المديون في إبراء نفسه ساعيا في فكاك رقبته . قلنا : إنما يصح ثمة لأنه تمليك لا لأنه توكيل كما قوله طلقي نفسك انتهى فتأمل . قال صاحب الكفاية بعد نقل السؤال والجواب عن الكافي : قلت لو كان تمليكا لاقتصر على المجلس ولا يقتصر ا هـ . أقول : يمكن أن يعارض هذا بأنه لو لم يكن تمليكا لما ارتد بالرد كما أشير إليه في سائر الشروح حيث قيل : إن الإبراء تمليك بدليل أنه يرتد بالرد فتدبر .

ثم إن الإمام الزيلعي ذكر السؤال المذكور وجوابه في شرح الكنز على نهج ما ذكر في الكافي بنوع تغيير عبارة في السؤال والجواب حيث قال : فإن قيل الدائن إذا وكل المديون بإبراء نفسه عن الدين يصح وإن كان عاملا لنفسه ساعيا في براءة ذمته . قلنا ذلك تمليك وليس بتوكيل كما في قوله طلقي نفسك ا هـ . واعترض عليه بعض الفضلاء حيث قال بعد نقل ذلك عنه : فيه بحث ; لأنه إن أراد أنه تمليك للدين فممنوع لظهور أنه ليس بتمليك ، إلا أن يقال : إنه من قبيل المبالغة في التشبيه ، وإن أراد أنه تمليك للإبراء كما في طلقي نفسك فإنه تمليك للطلاق ، فالتوكيل أيضا تمليك للتصرف الموكل به كما علم ذلك من الدرس السابق أيضا ا هـ . أقول : يجوز أن يختار كل واحد من شقي ترديده .

أما الأول فلسقوط منع ذلك بإقامة الدليل عليه لو لم يكن تمليكا للدين بل كان إسقاطه له لما ارتد بالرد ، فإن الإسقاط يتلاشى لا يرتد بالرد على ما عرف ، وقد أشار إليه الشراح بقولهم : الإبراء تمليك بدليل أنه يرتد بالرد . وأما الثاني فلسقوط نقض ذلك بالتوكيل فإن التوكيل على ما مر في صدر كتاب الوكالة إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف معلوم فهو إنابة محضة لا تمليك شيء أصلا . فقوله فالتوكيل أيضا تمليك للتصرف الموكل به كما علم في الدرس السابق أيضا ساقط جدا ، إذ لم يعلم قط لا في الدرس السابق ولا في موضع آخر أن التوكيل تمليك شيء ، بل هم مصرحون بكونه مقابلا للتمليك في مواضع شتى سيما في باب تفويض الطلاق من كتاب الطلاق . ثم قيل : ينبغي أن تصح وكالة الكفيل في مسألتنا لأنه عامل لرب الدين قصدا ، وعمله لنفسه كان واقعا في ضمن عمله لغيره ، والضمنيات قد لا تعتبر . وأجيب بأنا لا نسلم ذلك بل العمل لنفسه أصل ، إذ الأصل أن يقع تصرف كل عامل لنفسه لا لغيره .

وقيل لما استويا في جهة الأصالة ينبغي أن تبطل الكفالة بالوكالة ; لأن الوكالة كانت طارئة على الكفالة فكانت ناسخة للكفالة ، كما إذا تأخرت الكفالة عن الوكالة فإنها تكون ناسخة للوكالة ، فإن الإمام المحبوبي ذكر في الجامع الصغير أن الوكيل بقبض الدين إذا ضمن المال للموكل يصح الضمان وتبطل الوكالة . وأجيب بأن الكفالة تصلح ناسخة للوكالة ومبطلة لها لا على العكس ; لأن الشيء جاز أن يكون منسوخا بما هو مثله أو فوقه لا بما هو دونه ، والوكالة دون [ ص: 125 ] الكفالة في الرتبة لأن الكفالة عقد لازم لا يتمكن الكفيل من عزل نفسه ، بخلاف الوكالة فلم يجز أن تكون الوكالة ناسخة للكفالة وإن جاز عكسه ( ولأن قبول قوله ) أي قبول قول الوكيل ( ملازم للوكالة ) هذا دليل آخر على المسألة . تقريره أن الوكالة تستلزم قبول قول الوكيل ( لكونه أمينا ، ولو صححناها ) أي لو صححنا الوكالة هاهنا ( لا يقبل ) أي لم يقبل قوله ( لكونه مبرئا نفسه ) عما لزمه بحكم كفالته فانتفى اللازم وهو قبول قوله ( فينعدم ) أي التوكيل الذي هو الملزوم ( بانعدام لازمه ) الذي هو قبول قوله لأن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم فيلزم عدمه حال فرض وجوده ، وما كان كذلك فهو معدوم ( وهو نظير عبد مديون ) أي ما ذكر من مسألتنا نظير مسألة عبد مديون أو بطلان الوكالة فيما نحن فيه نظير بطلانها في عبد مديون .

وفي بعض النسخ : ونظيره عبد مديون ( أعتقه مولاه حتى ضمن قيمته ) أي ضمن المولى قدر قيمة العبد سواء كان موسرا أو معسرا ( للغرماء ويطالب العبد بجميع الدين ، فلو وكله الطالب ) أي فلو وكل المولى الطالب وهو رب الدين ( بقبض المال عن العبد كان باطلا ) أي كان التوكيل باطلا ( لما بيناه ) من أن الوكيل من يعمل لغيره وهاهنا لما كان المولى ضامنا لقيمة العبد كان في مقدارها عاملا لنفسه لأنه يبرئ به نفسه فكان التوكيل باطلا




الخدمات العلمية