الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن قال المدعي : سرق مني وقال صاحب اليد : أودعنيه فلان وأقام البينة لم تندفع الخصومة ) وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف وهو استحسان ، وقال محمد : تندفع لأنه لم يدع الفعل عليه فصار كما إذا قال : غصب مني على ما لم يسم فاعله . ولهما أن ذكر الفعل يستدعي الفاعل لا محالة ، والظاهر أنه هو الذي في يده إلا أنه لم يعينه درءا للحد شفقة عليه وإقامة لحسبة السر [ ص: 244 ] فصار كما إذا قال : سرقت ، بخلاف الغصب لأنه لا حد فيه فلا يحترز عن كشفه

التالي السابق


( وإن قال المدعي سرق مني ) أي إن قال المدعي سرق مني هذا الشيء على صيغة المجهول ( وقال صاحب اليد : أودعنيه فلان وأقام البينة ) أي على أن فلانا أودعنيه إياه ( لم تندفع الخصومة ) هذا أيضا لفظ القدوري . قال المصنف : ( وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف وهو استحسان . وقال محمد : تندفع ) أي الخصومة وهو القياس ( لأنه ) أي المدعي ( لم يدع الفعل عليه ) أي على ذي اليد ( فصار كما إذا قال ) أي المدعي ( غصب مني على ما لم يسم فاعله ) يعني أن التجهيل أفسد دعوى السرقة فبقي دعوى الملك فتندفع الخصومة بإثبات الوديعة ، كما لو جهل الغصب وقال : غصب مني على ما لم يسم فاعله وأقام ذو اليد البينة على الوديعة من آخر فإنه تندفع الخصومة هناك فكذا هنا ، كذا في غاية البيان ( ولهما ) أي لأبي حنيفة وأبي يوسف ( أن ذكر الفعل ) وهو السرقة ( يستدعي الفعل لا محالة ) لأن الفعل بدون الفاعل لا يتصور ( والظاهر أنه ) أي الفاعل ( وهو الذي في يده إلا أنه ) أي المدعي ( لم يعينه ) أي لم يعين الفاعل ( درءا للحد شفقة عليه ) أي على ذي اليد ( وإقامة لحسبة الستر ) أي لأجل الستر .

قال صاحب العناية : فإن قيل : إذا لم تندفع الخصومة فربما يقضي بالعين عليه وفي ذلك جعله سارقا فما وجه الدرء حينئذ ؟ أجيب بأن وجهه أنه إذا جعل خصما وقضى عليه بتسليم العين إلى المدعي ، وإن ظهر سرقته بعد ذلك بيقين لم تقطع يده لظهور سرقته بعد وصول المسروق إلى المالك ، ولو لم يجعل سارقا اندفع الخصومة عنه ولم يقض بالعين للمدعي ، فمتى ظهرت سرقته بعد ذلك بيقين قطعت يده لظهورها قبل أن يصل العين إلى المالك ، فكان في جعله سارقا احتيالا للدرء انتهى ، وأقول : في كل واحد من السؤال والجواب نظر .

أما في السؤال فلأنه إن أراد بقوله وفي ذلك جعله سارقا أن في ذلك الحكم عليه بموجب السرقة وهو القطع فهو ممنوع ، وإنما هو عند تعيين كونه السارق ، وإن أراد به أن في ذلك مجرد جعله خصما في دعوى كون ذلك الشيء مسروقا من المدعي فهو مسلم ، لكن لا وجه حينئذ لقوله فما وجه الدرء حينئذ إذ وجهه حينئذ ظاهر وهو سقوط القطع بعدم [ ص: 244 ] التعيين لشبهة كون السارق غيره ؟ وأما في الجواب فلأن مقتضاه أن جعل ذي اليد خصما والقضاء عليه بتسليم العين إلى المدعي في مسألتنا هذه إنما كان لأجل الاحتيال لدرء الحد ، وأن الاحتيال لدرئه إنما نشأ من قبل الشرع لا من قبل المدعي ، وهذا مع كونه مخالفا لمقتضى الدليل المذكور في الكتاب كما ترى غير تام في نفسه ، لأن ظهور سرقة ذي اليد بعد ذلك بيقين أمر موهوم وخروج العين المدعاة من يده على تقدير القضاء عليه بها أمر محقق فكيف يرتكب الضرر المحقق لدفع الضرر الموهوم سيما إذا اعترف بأنها ملك الغير أودعها عنده ، فإن إتلاف مال أحد لدفع ضرر موهوم عن آخر غير معهود في الشرع ( فصار ) أي فصار ما إذا قال سرق بصيغة المجهول ( كما إذا سرقت ) بالتعيين والخطاب ( بخلاف الغصب ) أي بخلاف ما إذا قال : غصب مني بصيغة المجهول حيث تندفع الخصومة بإثبات الوديعة بالاتفاق ( لأنه لا حد فيه ) أي في الغصب ( فلا يحترز عن كشفه ) فلم يكن المدعي معذورا في التجهيل .




الخدمات العلمية