الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 129 ] ( ومن قال إني وكيل بقبض الوديعة فصدقه المودع ) لم يؤمر بالتسليم إليه لأنه أقر له بمال الغير ، بخلاف الدين . ولو ادعى أنه مات أبوه وترك الوديعة ميراثا له ولا وارث له [ ص: 130 ] غيره ، وصدقه المودع أمر بالدفع إليه لأنه لا يبقى ماله بعد موته [ ص: 131 ] فقد اتفقا على أنه مال الوارث

التالي السابق


( ومن قال إني وكيل بقبض الوديعة فصدقه المودع لم يؤمر بالتسليم إليه ) هذا لفظ القدوري في مختصره ، علله المصنف بقوله ( لأنه ) أي المودع بفتح الدال ( أقر له ) أي للوكيل ( بمال الغير ) وهو المودع بكسر الدال ، فإنه أقر ببقاء الوديعة على ملك المودع ، والإقرار بمال الغير بحق القبض غير صحيح ( بخلاف الدين ) حيث يؤمر المديون بالتسليم إلى الوكيل الذي صدقه في وكالته على ما مر ، فإن الديون تقضى بأمثالها فكان إقرار المديون إقرارا على نفسه بحق المطالبة والقبض ، كذا ذكره الإمام قاضي خان .

ثم إن الوجوه الأربعة المذكورة في الوكيل بقبض الدين واردة في الوكيل بقبض الوديعة أيضا ; فإنه قال في المبسوط : وإذا قبض رجل وديعة رجل فقال رب الوديعة ما وكلتك وحلف على ذلك وضمن مالها المستودع رجع المستودع بالمال على القابض إن كان عنده بعينه لأنه ملكه بأداء الضمان ، وإن قال هلك مني أو دفعته إلى الموكل فهو على التفصيل الذي قلنا إن صدقه المستودع في الوكالة لم يرجع عليه بشيء ، وإن كذبه أو لم يصدقه ولم يكذبه أو صدقه وضمنه كان له أن يضمنه لما قلنا ا هـ . وذكر في الفوائد الظهيرية في فصل الوديعة إذا لم يؤمر بالتسليم ، ومع هذا سلم ثم أراد الاسترداد هل له ذلك ؟ ذكر شيخ الإسلام علاء الدين في شرح الجامع الصغير أنه لا يملك الاسترداد لأنه ساع في نقض ما أوجبه .

وقال أيضا : وإذا لم يؤمر بالتسليم ولم يسلم حتى ضاعت في يده هل يضمن ؟ قيل لا يضمن ، وكان ينبغي أن يضمن لأن المنع من وكيل المودع في زعمه بمنزلة المنع من المودع ، والمنع من المودع يوجب الضمان فكذا من وكيله ا هـ ( ولو ادعى ) أي ولو ادعى أحد ، وفي بعض النسخ : فلو ادعى ذكر المصنف هذه المسألة تفريعا على مسألة القدوري ( أنه ) الضمير للشأن ( مات أبوه ) أي أبو المدعي ( وترك الوديعة ميراثا له ) أي للمدعي ( ولا وارث له ) أي للميت [ ص: 130 ] غيره ) أي غير المدعي ( وصدقه المودع أمر بالدفع إليه ) أي أمر المودع بدفع الوديعة إلى ذلك المدعي . أقول : من العجائب هاهنا أن الشارح العيني قال في تفسير هذه المسألة : أي فلو ادعى من قال إني وكيل أنه أي فلانا مات أبوه إلخ .

ولا يخفى على من له أدنى مسكة أن هذه المسألة مسألة الوراثة ذكرت تفريعا على مسألة الوكالة لبيان الاختلاف بينهما في الحكم ، وأنه لا مجال لأن يكون الضمير المستكن في ولو ادعى أو فلو ادعى راجعا إلى من قال إني وكيل ; لأن المودع لا يؤمر بالتسليم إلى مدعي الوكالة أصلا . قال المصنف في تعليل هاتيك المسألة ( لأنه ) أي لأن مال الوديعة ( لا يبقى ماله ) أي لا يبقى مال المودع ( بعد موته ) أي بعد موت المودع . قال صاحب النهاية : ماله بالنصب ، وقال هكذا كان معربا بإعراب شيخي : أي لا يبقى مال الوديعة مال المودع بعد موته : أي منسوبا إليه ومملوكا له ، فكان انتصابه على تأويل الحال كما في كلمته فاه إلى في : أي مشافها ا هـ . وقال صاحب معراج الدراية بعد نقل ما في النهاية بعينه : ويجوز الرفع . وقال صاحب غاية البيان : قوله لا يبقى ماله بالنصب على أنه حال كما في قوله كلمته فاه إلى في : يعني لا يبقى مال الوديعة مال أبيه بعد موت أبيه ا هـ .

وقال صاحب العناية : وروى صاحب النهاية عن خط شيخه نصب ماله ووجهه بكونه حالا كما في كلمته فاه إلى في : أي مشافها ، ومعناه لا يبقى مال الوديعة مال المودع بعد موته منسوبا إليه ومملوكا له وتبعه غيره من الشارحين . ورأى أنه ضعيف لأن الحال مقيد للعامل ، فكلمته يجوز أن يكون مقيدا بالمشافهة : أي كلمته في حال المشافهة . وأما قوله لا يبقى مال الوديعة حال كونه مالا مملوكا له منسوبا إليه فليس له معنى ظاهر ، والظاهر في إعرابه الرفع على أنه فاعل لا يبقى : أي لأن المودع لا يبقى ماله بعد موته لانتقاله إلى الوارث ا هـ كلامه . أقول : فيه نظر .

أما أولا فلأنه قد تقرر في علم البلاغة أنه يجوز في أمثال هذا التركيب أن يعتبر القيد أولا فيئول المعنى إلى نفي القيد ، وأن يعتبر النفي أولا فيئول المعنى إلى تقييد النفي ويتعين كل واحد من الاعتبارين بقرينة تشهد له ، فإن أراد بقوله " وأما قوله لا يبقى مال المودع حال كونه مالا مملوكا له منسوبا إليه فليس له معنى ظاهر " أنه ليس له معنى ظاهر على الاعتبار الأول فممنوع ، إذ لا يخفى أن نفي بقاء مملوكية مال الوديعة للمودع وانتسابه إليه بعد موته معنى ظاهر مقبول ، وإن أراد بذلك أنه ليس له معنى ظاهر على الاعتبار الثاني فمسلم ، لكن المراد هاهنا هو الاعتبار الأول كما لا يخفى . وأما ثانيا فلأنه على تقدير رفع ماله على أنه فاعل لا يبقى يصير المعنى لا يبقى عين ماله بعد موته ، وليس هذا بمعنى صحيح إذا المال باق بعينه بعد موته وإنما المنتفى بعد موته مملوكيته وانتسابه إليه ، وذلك من أوصاف المال وأحواله يفهم من النصب على الحالية ، ولا يفهم من الرفع على الفاعلية ، اللهم إلا أن يدعي أنه يؤخذ من إضافة المال إلى الضمير الراجع إلى المودع لكنه بعيد جدا ، فالظاهر في إفادة المعنى المقصود هو النصب كما لا يخفى .

ثم إن الشارح العيني قد زاد في الطنبور نغمة حيث قال بعد نقل ما في النهاية وما العناية : والصواب هو الرفع على ما قاله الأكمل . وقد فاته شيء آخر ، وهو أن من شرط الحال أن تكون من المشتقات والمال ليس منها ، إلا أنه يجوز بالتأويل . ولو قال صاحب النهاية ومن تبعه في أنه نصب على الحال إنه حال على تأويل متمولا : أي لا يبقى الميت بعد موته متمولا [ ص: 131 ] لكان أوجه ا هـ . أقول : ليس ما زاده بشيء ، أما قوله إن من شرط الحال أن تكون من المشتقات فممنوع ، ألا يرى إلى قول ابن الحاجب وكل ما دل على هيئة صح أن يقع حالا مثل هذا بسرا أطيب منه رطبا .

ولئن سلم ذلك بناء على قول جمهور النحاة فجواز كون غير المشتق حالا بالتأويل بالمشتق مما لم ينكره أحد من النحاة ، وقد اعترف به نفسه أيضا حيث قال : إلا أنه يجوز بالتأويل ، وقد بين صاحب النهاية التأويل هاهنا حيث قال منسوبا إليه مملوكا له ، فبعد ذلك كان القدح فيه باشتراط كون الحال من المشتقات لغوا من الكلام . وأما قوله ولو قال صاحب النهاية ومن تبعه في أنه نصب على الحال إنه حال على تأويل متمولا : أي لا يبقى الميت بعد موته متمولا لكان أوجه فمما لا ينبغي أن يتفوه به العاقل لأن المتمول إنما هو المالك لا المال قطعا فكيف يتصور تأويل المال بما لا يصح حمله عليه وجعله صفة له ، بل على تقدير إرجاع ضمير لا يبقى إلى الميت لا يبقى له ارتباط بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام ( فقد اتفقا ) أي مدعي الوراثة والمودع . وقال العيني : أي الذي ادعى الوكالة والمودع .

أقول : هذا بناء على ضلاله السابق وقد عرفت ( على أنه ) متعلق باتفقا : أي فقد اتفقا على أن مال الوديعة ( مال الوارث ) فلا بد من الدفع إليه قال صاحب التسهيل : أقول فيه إقرار على الغير بالموت فينبغي أن لا يؤمر بالدفع حتى يثبت موته عند القاضي انتهى فتأمل




الخدمات العلمية