الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 354 ] ( ولو قال : له علي مائة درهم إلا دينارا أو إلا قفيز حنطة لزمه مائة درهم إلا قيمة الدينار أو القفيز ) وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ( ولو قال له علي مائة درهم إلا ثوبا لم يصح الاستثناء وقال محمد : لا يصح فيهما )

وقال الشافعي : يصح فيهما . ولمحمد أن الاستثناء ما لولاه لدخل تحت اللفظ ، وهذا لا يتحقق في خلاف الجنس . وللشافعي أنهما اتحدا جنسا من حيث المالية . [ ص: 355 ] ولهما أن المجانسة في الأول ثابتة من حيث الثمنية ، [ ص: 356 ] وهذا في الدينار ظاهر . والمكيل والموزون أوصافها أثمان ; أما الثوب فليس بثمن أصلا ولهذا لا يجب بمطلق عقد المعاوضة وما يكون ثمنا صلح مقدرا بالدراهم فصار مستثنى من الدراهم ، وما لا يكون ثمنا لا يصلح مقدرا فبقي المستثنى من الدراهم مجهولا فلا يصح .

التالي السابق


( ولو قال له علي مائة درهم إلا دينارا أو إلا قفيز حنطة لزمه مائة درهم إلا قيمة الدينار أو القفيز ) هذا لفظ القدوري في مختصره يعني يصح الاستثناء ويطرح من المائة قيمة الدينار أو قيمة الحنطة . قال المصنف ( وهذا ) أي الحكم المذكور ( عند أبي حنيفة وأبي يوسف ) استحسانا ( ولو قال له علي مائة ) أي مائة درهم ( إلا ثوبا لم يصح الاستثناء ) قياسا واستحسانا باتفاق أصحابنا ( وقال محمد : لا يصح فيهما ) أي في الوجهين وهو القياس ، وبه قال زفر وأحمد ( وقال الشافعي : يصح فيهما ) أي في الوجهين ، وبه قال مالك ( لمحمد أن الاستثناء ما لولاه لدخل تحت اللفظ ) يعني أن الاستثناء تصرف في اللفظ وهو إخراج بعض ما تناوله صدر الكلام على معنى أنه لولا الاستثناء لكان المستثنى داخلا تحت صدر الكلام ( وهذا ) المعنى ( لا يتحقق في خلاف الجنس ) أي في استثناء خلاف الجنس ، وإطلاق الاستثناء على المنقطع بطريق المجاز ( وللشافعي أنهما ) أي المستثنى والمستثنى منه ( اتحدا جنسا من حيث المالية ) يعني أن الشرط اتحاد الجنس وهو موجود من حيث المالية فانتفى المانع بعد تحقق المقتضي وهو التصرف اللفظي .

قال في الكافي : والكلام مع الشافعي بناء على الاختلاف في كيفية عمل الاستثناء ، فعنده الاستثناء يمنع الحكم بطريق المعارضة : أي إنما امتنع ثبوت الحكم في المستثنى لدليل معارض كدليل الخصوص في العام ، فتقدير قوله : لفلان علي عشرة إلا درهما فإنه ليس علي ، فعدم لزوم الدرهم للدليل المعارض لأول كلامه لا لأنه يصير بالاستثناء كأنه لم يتكلم به ; لأن أهل اللغة أطبقوا أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي ، وهذا إجماع منهم أن للاستثناء حكما يعارض به حكم الصدر ، ولأن كلمة الشهادة كلمة توحيد بالاتفاق ، فلو لم يكن للاستثناء حكم يضاد حكم الصدر لكان هذا نفيا للشركة لا توحيدا ، فإذا ثبت هذا الأصل فقال : العمل بدليل المعارض واجب بحسب الإمكان وقد أمكن هنا للمجانسة من [ ص: 355 ] حيث المالية . وعندنا الاستثناء يمنع التكلم بحكمه بقدر المستثنى فيصير كالتكلم بما وراء المستثنى ، ويخرج كلامه في القدر المستثنى من أن يكون إيجابا لقوله تعالى { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } وامتناع ثبوت الحكم لقيام الدليل المعارض يكون في الإيجاب لا في الإخبار ، وقد قال أهل اللغة قاطبة : إن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا فنجمع بين القولين ونقول : إنه استخراج وتكلم بالباقي بوضعه وإثبات ونفي بإشارته ، واختير الإثبات في كلمة التوحيد إشارة والنفي قصدا لأنه المقصود ، إذ الكفار يقرون به إلا أنهم يشركون معه غيره ، قال الله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } فإذا ثبت هذا الأصل فنقول إلخ .

وسلك صاحب النهاية هذا المسلك في حل هذا المقام إلا أنه قال في أثناء تقرير كلام الشافعي بعد قوله يجب العمل بالدليل المعارض بحسب الإمكان . فإن كان المستثنى من جنس المستثنى منه كان الدليل المعارض في العين فيمتنع العمل بقدره ، وإن لم يكن من جنسه كان الدليل المعارض باعتبار القيمة فيمتنع ثبوت الحكم بقدر قيمة المستثنى ، وقد اقتفى أثره بعض الشراح . وقال صاحب العناية : وكلام المصنف كما ترى يشير إلى أن المجانسة بين المستثنى والمستثنى منه شرط عند الشافعي أيضا وهو الحق ، وقرر الشارحون كلامه على أنها ليست بشرط بناء على أن الاستثناء عنده يعارض الصدر وليس من شرطه المجانسة ، وليس بصحيح لأنه يقول بالإخراج بعد الدخول بطريق المعارضة ، ونحن نقول بأن الاستثناء لبيان أن الصدر لم يتناول المستثنى فهو أحوج إلى إثبات المجانسة لأجل الدخول منا ، انتهى كلامه . أقول : لم يقل أحد من الشارحين بأن المجانسة بين المستثنى والمستثنى منه ليست بشرط عند الشافعي سوى صاحب الغاية فإنه قال خلافا للشافعي ; لأن الاستثناء كلام آخر يعارض الصدر بحكمه وليس من شرطه المجانسة ، ألا ترى إلى قوله :

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

قد استثنى من خلاف الجنس انتهى .

وأما ما قاله صاحب النهاية ومن تبعه من أنه إن كان المستثنى من جنس المستثنى منه كان الدليل المعارض في العين وإن لم يكن من جنسه كان الدليل المعارض باعتبار القيمة فليس بدال على ذلك ; لأن المراد بالجنس في قولهم إن كان المستثنى من جنس المستثنى منه كان الدليل المعارض في العين ما هو جنس صورة ومعنى لا مطلق الجنس الشامل لما هو جنس معنى فقط وإلا لم يتم قولهم كان الدليل المعارض في العين كما لا يخفى على المتأمل ، فكان المراد بالجنس في قولهم وإن لم يكن من جنسه ما هو جنس صورة ومعنى أيضا فالمفهوم منه انتفاء المجانسة بهذا المعنى في بعض مواد الاستثناء ، وهذا لا ينافي كون المجانسة في الجملة شرطا عند الشافعي أيضا في جميع مواد الاستثناء كما بين الدرهم والثوب من حيث المالية ، فقول الشارح الأكمل : قرر الشارحون كلامه على أنها ليست بشرط ليس بتام ( ولهما ) أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف ( أن المجانسة في الأول ) أي في الوجه الأول وهو قوله له علي مائة درهم إلا دينارا وإلا قفيز حنطة ( ثابتة من حيث الثمنية ) يعني أن شرط الاستثناء المتصل المجانسة وهي في الوجه الأول ثابتة من حيث الثمنية دون الوجه الثاني وهو قوله علي مائة درهم إلا ثوبا .

قال في العناية : وتحقيقه أن عدم تناول الدراهم غيرها لفظا لا يرتاب فيه أحد ، وإنما الكلام في تناولها إياه حكما ، فقلنا يتناول ما كان على أخص [ ص: 356 ] أوصافها الذي هو الثمنية وهو الدنانير والمقدرات والعددي المتقارب ( أما الدينار فظاهر ) يعني أما ثبوت المجانسة من حيث الثمنية في صورة استثناء الدينار في الوجه الأول فظاهر ; لأن كلا من الدينار والدرهم من جنس الأثمان من حيث الذات بلا اشتباه ( والمكيل والموزون أوصافهما أثمان ) يعني وأما ثبوت المجانسة من حيث الثمنية في صورة استثناء قفيز حنطة في الوجه الأول فلأن المكيل والموزون أوصافها أثمان .

توضيحه أن المكيلات والموزونات أثمان بأوصافهما وإن لم تكن أثمانا من حيث الذات ، حتى لو عينت في العقد يتعلق العقد بعينها إلا أنها إذا وصفت ثبتت في الذمة حالا ومؤجلا ويجوز الاستقراض بها فكانت في حكم الثبوت في الذمة كجنس واحد معنى وإن كانت أجناسا صورة والاستثناء استخراج وتكلم بالباقي معنى لا صورة ; لأنه تكلم بالمائة صورة ، كذا في الكافي والشروح ( أما الثوب ) في الوجه الثاني ( فليس بثمن أصلا ) أي لا ذاتا ولا وصفا ( ولهذا لا يجب بمطلق عقد المعاوضة ) بل يثبت سلما أو ما هو بمعنى السلم كالبيع بثياب موصوفة مؤجلا فلم يكن استثناؤه من الدراهم استخراجا صورة ولا معنى فكان باطلا ( وما يكون ثمنا صلح مقدرا ) بكسر الدال على صيغة اسم الفاعل ( للدراهم ) أي لما دخل تحت المستثنى من الدراهم لحصول المجانسة بينهما باشتراكهما في أخص الأوصاف ( فصار بقدره مستثنى من الدراهم ) بقيمته فصار تقدير الكلام له علي مائة إلا قدر قيمة المستثنى .

وفي الذخيرة : إذا صح الاستثناء يطرح قيمة المستثنى عن المقر به ، وإن كانت قيمة المستثنى تستغرق ما أقر به لا يلزم شيء ( وما لا يكون ثمنا لا يصلح مقدرا ) للدراهم لعدم المجانسة ( فبقي الاستثناء من الدراهم مجهولا ) وفي بعض النسخ : فبقي المستثنى من الدراهم مجهولا ( فلا يصح ) أي الاستثناء فيجبر على البيان ولا يمتنع به صحة الإقرار لما تقرر أن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار ، ولكن جهالة المستثنى تمنع صحة الاستثناء لأن جهالة المستثنى تورث جهالة في المستثنى منه فبقي المقر به مجهولا ، كذا في النهاية ومعراج الدراية . قال في العناية : ولقائل أن يقول : ما ليس بثمن لا يصلح أن يكون مقدرا من حيث القيمة ، والأول مسلم وليس الكلام فيه ، والثاني ممنوع فإن المقدرات تقدر الدراهم من حيث القيمة . والجواب أن التقدير الاستثنائي يقتضي حقيقة التجانس أو معناه بما ذكرنا من حيث أخص الأوصاف استحسانا فلا بد من تقدير التجانس ، ثم المصير إلى القيمة وليس ذلك في غير المقدرات انتهى أقول بقي هاهنا كلام آخر ، وهو أنهم صرحوا بأن ما يكون ثمنا بوصفه كالمكيل والموزون إنما يكون ثمنا واجبا في الذمة بسبب الوصف كالحنطة الربيعية والخريفية لا بسبب الذات والعين ، حتى لو عين يتعلق العقد بعينه فيكون بيع مقايضة ولا يجب في الذمة ، ولو وصف ولم يعين صار حكمه كحكم الدينار فيجب في الذمة ، فالظاهر أن مثل هذا إنما يصلح أن يكون مقدرا للدراهم إذا كان موصولا لا مطلقا ، وفي مسألتنا هذه لم يوصف قفيز حنطة بشيء فلا يصلح أن يكون مقدرا للدراهم فيبقى [ ص: 357 ] المستثنى من الدراهم مجهولا في هذا الوجه أيضا فينبغي أن لا يصح الاستثناء في قوله إلا قفيز حنطة فليتأمل في الجواب .




الخدمات العلمية