الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالأول: كالمصلي. والثاني: كالمجاهد.

فهذا يكون متقربا إلى الله تعالى بغاية التقرب، فيتقرب الله إليه -أيضا- كذلك، فيكون الله عنده في قلبه. وهذا على ثلاث درجات:-

[ ص: 263 ] أما الدرجة الأولى: فهو وجود الرب عنده في قلبه معلوما، معبودا، محبوبا، معظما، وهذا مما لا ينازع فيه.

الثانية: صعود قلبه إلى الله، وعروجه إليه، ودنوه منه، بحيث يقرب نفس الظرف إلى المظروف، حتى يحصل من كون الله نفسه عنده ما ليس لغيره، وهذا متفق عليه بين أهل الإثبات. والجهمية تنازع فيه، ويلزم من قربه هو من الله ودنوه منه: قرب الرب منه ودنوه منه، فإن ما قربت إليه فقد قرب إليك بالضرورة.

الثالثة: أن يكون الرب نفسه تقرب إليه، تقرب من نفسه، ودنو من نفسه، غير ما جعله فيه من التقرب. فهذا -أيضا- ثابت عند كثير من أهل الإثبات، أو أكثرهم، ومنهم من [ ص: 264 ] ينازع [فيه]. وهذا مبسوط في مسألة القرب.

وعلى هذا التقدير فإن الرب نفسه يكون عند عبده، [خارجا] عما في نفس العبد وقد قال: "من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة". وقال: "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، أقرب إليها كل يوم شبرا، ولولا ذلك لاحترقت".

وهو (يخرج على القولين

فالأولون يقولون: إن الرب يتقرب إلى عبده بنفسه، غير ما يوفق العبد له) من تقربه إلى ربه.

وهؤلاء يقولون: بل هو إذا تقرب إلى ربه أثابه بما يوفقه له [ ص: 265 ] من تقرب آخر يكون الرب به متقربا إليه أكثر مما يقرب إليه، وهؤلاء يمنعون أن يكون الله موصوفا بذاته بحركة أو تقرب أو نحو ذلك. والأولون لا يمنعون ذلك. وقد بسطنا الكلام على هذا في (الأجوبة المصرية) وغير ذلك.

والمقصود هنا: أن قوله: "لو عدته لوجدتني عنده". وقوله: "أين أجدك؟ قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، أقرب إليها كل يوم شبرا، ولولا ذلك لاحترقت" ليس ظاهره أن ذات الله [تكون] موجودة في المكان الذي يكون ذلك فيه، بل يكون الله موجودا عنده، أي في نفسه، إذ هذه العندية أقرب إليه من تلك العندية، فإن الظرف المتصل بالإنسان أقرب إليه من الظرف المنفصل عنه، فحمل الكلام عليه أولى، وإذا كان الظرف هو نفسه فقوله: "وجدتني عنده" كقوله: وجدتني في قلبه، ووجدتني في نفسه، ووجدتني حاضرا في قلبه، ووجدتني ثابتا في قلبه، ونحو ذلك من العبارات.

[ ص: 266 ] ومعلوم أن هذا الخطاب حق على ظاهره، كما تقدم من ثبوت تعلقات الظرف بالمظروف، وإن ذلك ليس بمنزلة قوله: كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب [النور: 39]، بل باقتران ما أضيف [إليه] الظرف في الموضعين اقترن تعلقه بالمظروف، كما لو قيل لبعض الصحابة: وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم (عند أحد. وقال: الآخر: وجدت رسول الله) عند المتبعين لسنته. لاسيما وقد علم المخاطب أنه يمتنع أن يشاهد [الموجود] عند غيره. فقد علم المخاطب بقوله: "لو عدته لوجدتني عنده" وعلم موسى بن عمران: أنهم لا يشهدون الله عيانا في الدنيا.

فلا يظهر لهم من قوله: لوجدتني عند عبدي المريض، وعند المنكسرة قلوبهم من أجلي، إلا ما هو المناسب اللائق بهذا المضاف إليه، دون المضاف إلى غيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية