الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
والكلام على هذا التأويل من وجوه:

أحدها: أن من ألفاظ الحديث: "إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته" فنهى عن ضرب الوجه لكون آدم مخلوقا، (لأن الله خلق آدم) على صورة الرحمن، فلو كان المراد إبداع روحه مدبرا لجسده من غير حلول فيه، [ ص: 552 ] كما أن الله تعالى مدبر للعالم من غير حلول فيه، لم يكن هذا متناولا للوجه، فإن الوجه من الجسد الذي تدبره الروح، فيكون مشابها لبعض العالم الذي يدبره الله تعالى، ولا يكون داخلا في الروح التي خلقها الله تعالى على صورته، وإذا كان كذلك لم يصلح أن يعلل النهي عن ضربه بعلة لا تتناوله.

الوجه الثاني: أنه لو أريد هذا [لقيل]: لا تغموا الآدمي، أو لا تحزنوه، أو لا تضيقوا صدره، فإن الله خلقه على صورته، فيكون النهي عن تعذيب الروح المشابهة للرب من الوجه الذي ذكره، إن كان ما قاله حقا.

الوجه الثالث: أن كون حقيقة الآدمي هي الروح، وأنها مخلوقة على صورة الله أمر لا يختص الوجه، بل يشترك فيه سائر البدن، فإن الروح مدبرة لجميع البدن، فتخصيص الوجه بالنهي عن ضربه وشتمه لأجل ذلك لا وجه له، بل يقال: إما أن يكون كون الروح مخلوقة على صورة الله موجبا للنهي عن الضرب والتقبيح لما هي مدبرة [له]، أو لا يكون، فإن كان ذلك وجب أن ينهى عن [ضرب] جميع أجزاء بدن الإنسان، [ ص: 553 ] حتى لا يجوز الضرب [والتقبيح] لشيء من بدن الآدمي مطلقا، وإن كان كافرا، أو فاسقا، ومعلوم أن هذا في نهاية الفساد، المعلوم بالاضطرار من العقل والدين، وإن لم يكن ذلك موجبا للنهي لم ينه عن ضرب الوجه، وهو خلاف النص والإجماع.

الوجه الرابع: أن الحديث: "لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته" (نهى عن تقبيح الوجه، وتقبيح ما يشبهه، لأن الله خلق آدم على صورته) فلو كان المخلوق على الصورة إنما هو الروح لم يصح هذا التشبيه، فإن الله لا يشبه وجه الإنسان، وإنما يشبه روحه.

الوجه الخامس: أن هذا التقبيح المنهي عنه لا يصلح أن يكون للوجه، لعدم تناول العلة له.

الوجه السادس: أنه لو أريد ذلك لقيل: لا تقبحوا الروح، أو لا تسبوها ونحو ذلك.

الوجه السابع: أنه لا اختصاص للوجه بالنهي عن تقبيحه على هذا التقدير، بل كان الواجب أن ينهى عن تقبيح جميع [ ص: 554 ] أعضاء البدن، أو لا ينهى عن تقبيح شيء منها، لأن تعلق الروح بذلك تعلق واحد.

الوجه الثامن: أن قوله في الحديث الآخر المتفق عليه: "إن الله خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعا" صريح في أن المخلوق على صورته طوله ستون ذراعا، وهذا نص في البدن، فكيف يجوز أن يقال: إن البدن ليس داخلا في الحديث، وإنما المراد الروح فقط؟!

الوجه التاسع: أن اسم آدم يتناول البدن كتناوله الروح، وهذا معلوم بالاضطرار من كلام الله، وكلام رسوله، والعلماء، كما في قوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وقوله: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة [البقرة: 35]، وقوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [البقرة: 37]، وقوله يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة [الأعراف: 27]. وأمثال ذلك.

فمن زعم أن اسم آدم لا يتناول إلا الروح فقط في مثل خلق آدم ونحوه من الكلام، فإن بطلان قوله معلوم بالاضطرار المنزل بين العباد، وإنما يقال هذا في مثل قوله -في حديث [ ص: 555 ] المعراج-: أنه رأى في السماء آدم، وإبراهيم، وموسى، ونحوهم، فإنه في [مثله يقال]: المذكور هي الأرواح، للعلم بأن أجسادهم في قبورهم.

الوجه العاشر: أنه لو قال قائل: لفظ: "خلق آدم" إنما يتناول البدن، وأن الروح نفخت فيه بعد ذلك، لكان أقرب من هذا التبديل، فإنه سبحانه وتعالى قال: إني خالق بشرا من طين [ ص: 556 ] فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ص: 71-72]، وقال إبليس: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون [الحجر: 33]، وقال: خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار [الرحمن: 14-15]، وقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنوه على قدر تلك القبضة، فيهم الأسود، والأبيض، وبين ذلك، والخبيث، والطيب، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك".

[ ص: 557 ] وهذه النصوص وأمثالها مصرحة بأنه خلق آدم من التراب، ومن الطين، ومعلوم أن البدن هو المخلوق من ذلك، فكيف يدعي المدعي أن قوله: "خلق آدم" إنما يتناول الروح فقط؟!

الوجه الحادي عشر: أن أبا حامد يدعي في مواضع أن لفظ الخلق إنما يتناول [بالروح مسألة] التقدير والمساحة، وهو عندهم عالم الأجسام، التي يسميها عالم الملك، فأما الأرواح المفارقة، أو المدبرة، التي يسميها عالم الجبروت [ ص: 558 ] والملكوت، فتلك عنده عالم الأمر، ليست من عالم الخلق، فإذا ادعى مع ذلك أن لفظ الخلق إنما يتناول [ما هو] من عالم الأمر، دون عالم الخلق، كان هذا من أعظم التناقض ودل ذلك على فساد كلامه في هذا الباب.

الوجه الثاني عشر: أن [هذا] غايته أن يكون خلقه على بعض صفاته، وهي صفة التدبير للخلق، من غير حلول فيه، وهذا دون قول من يقول: على صفة الحياة، والعلم، والقدرة، وقد تقدم بطلان قول من حمل لفظ الصورة على هذه الصفات بما فيه كفاية، وذلك كله دليل على بطلان هذا بطريق الأولى، وهذه الوجوه المذكورة في الصفة كلها.

الوجه الثالث عشر: أن إطلاق لفظ صورة الله على مجرد [ ص: 559 ] كونه مدبرا للعالم، من غير حلول فيه، أمر لا يدل عليه اللفظ بوجه من الوجوه، بل هو من جنس دعاوي القرامطة الباطنية، ولا ريب أن كلام المتفلسفة في الروح مما تميل إليه القرامطة الباطنية.

الوجه الرابع عشر: أن عند أبي حامد ومتبعيه من المتفلسفة أن الملائكة بهذه المثابة، وهي التي يسمونها [ ص: 560 ] العقول والنفوس، فإنها عندهم مدبرة لعالم الأفلاك من غير حلول فيها، فلا اختصاص لآدم بكونه مخلوقا على صورة الله تعالى على هذا التقدير، بل جميع الملائكة، وما يسمونه العقول والنفوس مخلوق على صورة الله تعالى [ ص: 561 ] على هذا التقدير، ومن أثبت من هؤلاء ووافق على أن لهم معادا فإنه يقول فيهم كذلك، فيكون إبليس –أيضا- مخلوقا على صورة الله تعالى عندهم، وينبغي على هذا أن ينهى عن تقبيح الجن والشياطين، لأنهم مخلوقون على صورة الله تعالى.

الوجه الخامس عشر: أن هذا الكلام خرج مخرج المدح والتعظيم لآدم، والمدح إنما يكون بالصفات الثبوتية، وبالسلبية التي تتضمن صفات ثبوتية، وليس فيما ذكروه إلا مجرد كونه مدبرا للبدن، وكونه غير حال فيه، وهذه الصفة الثانية صفة سلبية، ومجرد التدبير مشترك بين جميع الحيوانات.

الوجه السادس عشر: أن يقال: إن تشبيه الرب بالعبد إما أن يكون سائغا أو لا يكون، فإن لم يكن سائغا بطل تشبيه الله بالروح المدبرة للبدن، وإن كان سائغا فلا حاجة إلى تحريف الحديث.

والمقصود أنهم في تأويلهم مثبتون لنظير ما فروا منه، فإنهم فروا من التشبيه ولم يتأولوه، إلا على التشبيه، وإن قالوا بثبوت التشبيه من وجه دون وجه، كان كلام منازعيهم في النفي والإثبات أقوى من كلامهم، كما تقدم، لاسيما على هذا القول.

[ ص: 562 ] الوجه السابع عشر: هذا التشبيه تشبيه باطل، فإن الروح محتاجة إلى البدن في تحصيل كمالاتها، كما أن البدن محتاج إليها، كل منهما محتاج إلى الآخر، وباتفاقهما كانت الأعمال، كما رواه الحافظ أبو عبد الله بن منده في كتاب (النفس والروح) وغيره، عن ابن عباس قال: "لا تزال الخصومة يوم القيامة حتى يختصم الروح والبدن، فتقول الروح: أنا لم أعمل شيئا، وإنما أنت عملت، فأنت المستحق للعذاب، ويقول البدن: أنا لم أتحرك من تلقاء نفسي، ولكن أنت حركتني، وأمرتني، فيبعث الله ملكا يحكم بينهما فيقول: مثلكما مثل مقعد وأعمى، دخلا بستانا، فرأى المقعد فيه ثمرا معلقا، فقال للأعمى: إني أرى ثمرا، ولكن لا أستطيع المشي إليه، [ ص: 563 ] فقال الأعمى: أنا أستطيع المشي لكني لا أراه، فقال: [تعال] فاحملني، فحمل الأعمى المقعد، وجعل يقول له [تعال] إلى هنا تعال إلى هنا. فيأمر المقعد [الأعمى] فيفعل، فعلى من يكون العقاب؟. فقال: على الاثنين، فقال الملك: فهذه حالكما"، أو نحو هذا المعنى.

وهذا أمر محسوس متفق عليه بين العقلاء، وهؤلاء الذين يسمونها "النفس الناطقة" متفقون على أنها تعلقت بالبدن [ ص: 564 ] لتحصيل كمالاتها.

وإذا كان كذلك فيلزم من هذا التشبيه أن يكون الله محتاجا إلى العالم، كما أن العالم محتاج إليه، وهذا من أقبح الكفر والتمثيل فإن التشبيه إذا ساغ إنما يسوغ في صفات الكمال، وهذا تشبيه لله بخلقه في صفات النقص.

وأيضا فإن الروح تفارق البدن ما شاء الله من الزمان، وعلى زعم المتفلسفة مفارقتها له أكثر من مقارنتها، فإنها عندهم لا تقارنه بعد المفارقة أبدا، فيلزم أن يكون تخلي الله عن تدبير العالم أعظم من تدبير العالم أضعاف أضعاف تدبيره له، على تقدير صحة هذا التشبيه.

الوجه الثامن عشر: أن الله رب العالم كله، خالقه وبارئه، [ ص: 565 ] ومصوره، وأما الروح والبدن فبمنزلة المتشاركين المتعاونين، فكيف يجوز أن يقال: نسبة ذات آدم -التي هي روحه- إلى هذا البدن كنسبة الباري إلى العالم؟! مع أن ذلك من أبعد الأمور عن المشابهة، فإن كون أحدهما غير حال فيه مع كونه مؤثرا فيه بالتدبير والتصرف ينعكس في جانب الإنسان، فإن البدن على رأيهم ليس بمحل للروح، وهو –أيضا- مؤثر في الروح، إذ كل منهما يؤثر في الآخر، فما يحسه البدن ويباشره ببدنه يؤثر في الروح، كما يذكره أبو حامد في غير موضع، وهو محسوس، فهل العالم يؤثر في الله كتأثير البدن في الروح؟!

الوجه التاسع عشر: أن كون الإنسان ليس بجسم ولا جسماني أمر ليس من المعارف الظاهرة، ولا أخبر به الرسول أمته حتى يصير معروفا عندهم، بل كون الله ليس بجسم هو أيضا كذلك، ليس من المعارف الظاهرة، ولا أخبر به الرسول أمته، فقوله: "خلق آدم على صورته" إذا أراد به أن كلا [ ص: 566 ] منهما ليس بجسم ولا جسماني، بل كل منهما غير حال فيما يدبره، مع تأثيره فيه، أمر لا يدل عليه اللفظ في اللغة التي خوطب بها، ولا كان عند المخاطبين من المعارف ما يفهم ذلك، فيكون بيان هذا المعنى بهذا اللفظ خارجا عن قانون الخطاب ليس بحقيقة عندهم، ولا مجاز، إذ من شرط المجاز ظهور القرائن المثبتة للمراد، وليس عند المخاطبين قرينة تبين ذلك.

الوجه العشرون: أن هذا المعنى الذي ادعوه، من كون الروح ليس بجسم ولا جسماني، وأنها ليست في البدن، وأن تعلقها بالبدن إنما هو تعلق التدبير فقط، وأن الباري -أيضا- ليس بجسم، وأن تعلقه بالعالم تعلق التدبير.

فيقال: لا يفهم إلا بعبارات مبسوطة، أما أن يكون مجرد قوله: "خلق آدم على صورته" مفهما لهذه المعاني مبينا لها من الرسول الذي عليه البلاغ المبين معلوم الفساد بالاضطرار.

الوجه الحادي والعشرون: أن دعواهم أن الروح ليست في البدن، خلاف ما نطقت به نصوص الكتاب والسنة، وهو خلاف المحسوس الذي يحسه بنو آدم، لاسيما حين الموت، إذا [ ص: 567 ] أحسوا بنزع الروح من جسد أحدهم، وأنها تخرج من كل عضو من أعضائه، وكذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج، فتسيل كما [تسيل القطرة من في السقاء] فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وذلك الحنوط -يعني الذي [جاء] مع الملائكة من الجنة، إلى آخر الحديث كما تقدم لفظه، وقال في الكافر: يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه، فتتفرق في أعضائه كلها، فينزعها نزع السفود من الصوف المبلول، فتتقطع بها العروق والعصب". وتمام الحديث قد تقدم كل ما فيه. [وهو] صريح بدخول الروح، وخروجها، وصعودها، وهبوطها، وقبضها، [ ص: 568 ] وإرسالها، وما يشبه ذلك من الصفات التي هي عندهم لا تكون إلا [لما] يسمونه في اصطلاحهم جسما. فقول القائل: ليست بجسم وليست في البدن. مضادة لقول الرسول، فكيف يجوز أن يحمل عليه ألفاظ الرسول، حتى يجعل متشابه كلامه مناقضا لمنصوصه ومحكمه؟!

الوجه الثاني والعشرون: أن الله قال: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29) في موضعين من القرآن، وقال: وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة [السجدة: 7-9] فأخبر أنه نفخ فيه من روحه، فكيف يجوز أن يقال: إن الروح ليست فيه؟!

التالي السابق


الخدمات العلمية