الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم يقال: هنا جواب مطلق، وهو أن الوجه يراد به الجهة، ولا يكون ذلك خلافا لظاهر الخطاب إذ كان ذلك [ ص: 75 ] مبينا في الكلام، كقول أنس، في حديث الاستسقاء: فلم يقدم أحد من وجه من الوجوه إلا أخبر بالجود.

فهذه الآية إما أن يكون ظاهرها أن وجه الله الذي هو الصفة (ثم)، أو يكون ظاهرها أن الذي (ثم) هو القبلة [ ص: 76 ] المخلوقة فقط، أو يكون ظاهرها أن كلاهما (ثم)، أو تكون مجملة [تحتمل] الأمرين.

فإن كان ظاهرها هو الأول: أقرت على ظاهرها، ولا محذور في ذلك، ومن يقول هذا لا يقول إن وجه الله هو نفسه في نفس الأجسام المستقبلة، فإن هذا لا يقوله أحد من أهل السنة، بل يقول: (فثم) إشارة إلى البعيد، وقوله: فأينما تولوا [البقرة: 115]، أي: أينما تستقبلوا، والعبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه، والله يقبل عليه بوجهه، ما لم يصرف وجهه عنه، كما تواترت بذلك الأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه" وإذا [ ص: 77 ] كان كذلك فقد أخبر أنه أينما استقبل العبد فإنه يستقبل وجه الله، فإن ثم وجه الله، فإن الله فوق عرشه على سمواته، وهو محيط بالعالم كله، فأينما ولى العبد فإن الله يستقبله.

وعلى هذا فقوله: (ثم) إشارة إلى ما دل عليه [أينما] وهو المستقبل، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

وإن كان ظاهرها أن الذي (ثم) هو القبلة المخلوقة فقط، لم تكن مصروفة عن ظاهرها إذا فسرت بذلك.

وتوجيه ذلك أن يقال: قوله: (فثم) إشارة إلى مكان موجود، والله تعالى فوق العالم ليس هو في جوف الأمكنة.

لكن يرد على هذا أن يقال: لو أراد الله ذلك لقال: فأينما تولوا فوجهوا الله؛ لأنه إذا لم يرد بالوجه إلا الجهة المستقبلة فهي التي تولى، كما قال: ولكل وجهة هو موليها [البقرة: 148]؛ فأخبر أن العباد يولون نفس الوجهة، فإذا كان المراد بالوجه الوجهة قال: فأينما تولوا فثم وجه الله [البقرة: 115]، [ ص: 78 ] أي فهو قبلة الله.

وقد يؤكد ذلك بأن يقال: لفظ الوجه وإن كان مراده [الجهة]، لكن الله إنما سمى القبلة في كتابه وجهه، لم يسمها [وجها] فيفسر القرآن بعضه ببعض.

ويقال أيضا: إذا كان المراد ليس هو إلا أن هناك قبلة مخلوقة لله، فهذا قد عرف بقوله: ولله المشرق والمغرب [البقرة: 115].

وأما إن قيل: إن ظاهرها يتناول الأمرين، وقول مجاهد وغيره لا ينافي ذلك؛ فإن القبلة ما يستقبله المصلي، وقد ثبت بالنصوص المتواترة أن المصلي يستقبل ربه وهو –أيضا- يستقبل القبلة المخلوقة القريبة منه، وهي السترة، والبعيدة وهي الكعبة مثلا، فإن كلاهما يسمى قبلة، إذ القبلة ما يستقبل، فيكون على هذا قوله: فثم وجه الله [البقرة: 115] أي: فثم جهته التي يصلي إليها، وثم وجهه الذي يستقبله المصلي، وكل ذلك موجود في توجه العبد.

وليس في ظاهر القرآن أن الله تعالى في جوف المخلوقات، وإنما قال: (فثم) وهذا إشارة إلى ما استقبل، [ ص: 79 ] فتناول العالم وما وراءه، وما فوقه، فإن ذلك كله يستقبله العبد.

ومن قال هذا قال: [إن] الله ذكر هذا الموضع بلفظ الوجه لا بلفظ الجهة، والكلام هو في استقبال القبلة في الصلاة، فلا يجوز حمل الآية على أحد المعنيين دون الثاني، وقد تقدم بيان أنه لا يجوز حمله على الوجهة فقط، وكذلك لا يجوز حمله على صفة الله فقط؛ لأن المقصود بالآية بيان جواز استقبال تلك الجهة في الصلاة، فلا بد من دلالتها على هذا الحكم. يوضح ذلك أن المصلي إنما مقصوده التوجه إلى ربه، وكان من المناسب أن يبين له أنه إلى [أي] الجهات صليت فأنت متوجه إلى ربك، ليس في الجهات ما يمنع التوجه إلى ربك، فجاءت الآية وافية بالمقصود. فقال ولله المشرق والمغرب [البقرة: 115]، فأخبر أن الجميع ملكه، وهو خلقه. وقد علم بالفطرة والشرعة أن الرب فوق خلقه، ومحيط به. فدل ذلك على أن من استقبل شيئا من المشرق أو المغرب فإنه متوجه إلى ربه، كسائر ما يستقبله، والله قبل وجهه إلى أي جهة صلى؛ لأنه فوق ذلك كله ومحيط بذلك كله.

التالي السابق


الخدمات العلمية