الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قول القائل: "على صورته التي هي العالم، فإن الإنسان مختصر العالم". فلا حاجة إلى المنازعة في كون [ ص: 585 ] الإنسان مختصر العالم ونسخة للعالم، ولا في كون هذا المعنى قد يكون من لوازم خلقه على صورة الرحمن، كما [لا ينازع] في كونه عالما وقادرا وحيا وعالما، ولكن هذا لا يجوز أن يكون هو مقصود الحديث لوجوه:

أحدها: أن قوله: "إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته" يقتضي أن خلقه على صورة الرحمن: هو المانع من ضربه، وكونه على صورة العالم لا يمنع ضربه، وقتاله، فإن العالم نفسه مشتمل على النعيم والعذاب، وعلى ما ينعم ويعذب، وعلى البر والفاجر.

الثاني: أن قوله: "لا يقل أحدكم قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته" يقتضي أن شبه الوجه بالصورة هو المانع من تقبيح من أشبه الوجه، ومعلوم أن العالم نفسه ليس فيه ما يشبه وجه الآدمي مخصوصا يمنع ذمه وهو وجه يشبه وجهه.

الثالث: أن خلقه على نسخة العالم ليس له اختصاص [ ص: 586 ] بالوجه، بل هو شامل لروحه -كما يبين ذلك من يقوله- وحينئذ فينبغي أن يكون النهي عن الضرب لسائر أعضائه ونفسه، [أو] لا ينهى عن الضرب لشيء، وكلاهما باطل.

الرابع: أنه على هذا التقدير كان النهي عن التقبيح يقتضي أن يكون شاملا لجميع الأعضاء والنفس.

الخامس: أن تسمية العالم صورة الله أمر باطل، لا أصل له في اللغة، بل العالم مخلوق الله ومملوكه.

السادس: أن هذا الوجه يتضمن أن إضافة الصورة إليه إضافة خلق وملك، لا إضافة ذاتية، وقد تقدمت الوجوه المبطلة لهذا، فهي تبطل هذا التأويل.

السابع: أن كون الإنسان مشابها للعالم ليس بأعظم من مشابهة بعض الناس لبعض، كمشابهة الرجل لأبيه، ومعلوم أن مشابهة بعض الآدميين لبعض ليس مقتضيا لذم ولا مدح، ولا مانعا من العقوبات، بل هو سبحانه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي.

الثامن: أن كون الإنسان مختصرا من العالم أن فيه المحمود [ ص: 587 ] والمذموم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنوه على قدر تلك القبضة، منهم الخبيث والطيب، وبين ذلك، والسهل والحزن، [وبين] ذلك، و[الأسود] والأبيض، وبين ذلك" وإذا كان كذلك فكونه مختصرا من العالم ومشبها له لا يوجب منع تقبيح شيء منه ولا منع ضرب شيء منه.

التاسع: أنه من المعلوم أن أرواح بني آدم أشرف من أجسادهم، ثم إن هذه الأرواح التي يسمونها (النفوس الناطقة) تنقسم إلى: محمود، ومذموم، كما يقول الملك للنفس المؤمنة: "اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي راضية مرضية، فإذا خرجت صلى عليها كل ملك في السماء، وكل ملك في الأرض، وكل ملك بين السماء والأرض، ويقول للكافرة، اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ساخطة [مسخوطا] عليك، [ ص: 588 ] وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فإذا خرجت لعنها كل ملك في السماء، وكل ملك في الأرض، وكل ملك بين السماء والأرض".

وإذا كانت الروح قد تقبح وتشتم، وتلعن، وتوصف بالخبث، فالجسد أحق بذلك، فلو كان [مشابهة] أشرف [ ص: 589 ] ما في العالم يمنع التقبيح لوجب ألا تقبح النفس الناطقة قط، فلما جاز تقبيحها، ومنع الشارع من تقبيح الوجه، لأن الله خلق آدم على صورته، ولا فرق في ذلك بين وجه البر والفاجر، علم أن المانع ليس مشابهة العالم.

التالي السابق


الخدمات العلمية