الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 453 ] الوجه [التاسع]: إبطال أعيان التأويلات التي [ذكرها].

فأما قوله في الوجه الأول: أنه لم يغير خلقة آدم، ولم يمسخها كما مسخ غيره كالحية والطاووس، قيل: خلق آدم على صورة آدم.

فيقال له: العبارة المعروفة عن هذا المعنى أن يقال: أبقى آدم على صورته، أو تركه على صورته، أو لم يغير صورة آدم، لا يقال خلقه على صورة نفسه، فإن هذا اللفظ لا يستعمل في مثل ذلك المعنى، ألا ترى أن الله لما مسخ بعض بني إسرائيل كالذين قال لهم: كونوا قردة خاسئين، كما قال: وجعل منهم القردة والخنازير [المائدة: 60] وأنجى الذين كانوا ينهون عن المنكر، فإنه [ ص: 454 ] لا يقال: خلق هؤلاء على صورهم، بل يقال: أبقاهم على صورهم، أو أبقى صورهم، أو لم يمسخهم، وهذا لما تقدم من أن هذا اللفظ لا يقال إلا فيما تقدمت الصورة على خلقه، لا فيما تأخرت.

وأيضا: فهذا من الأمر المعروف الظاهر لكل أحد، أن مضمونه أن صورة آدم كانت كهذه الصور لم تمسخ، وما من الناس إلا من يعرف هذا كما يعرف آدم.

[فقول] القائل لهذا كقوله: إن آدم كان له وجه، وعينان، وأذنان، [ويدان] وساقان. وهذا من الكلام السمج.

وأيضا: فالإخبار بما ذكره من مسخ غير آدم غير معلوم، ولا مذكور.

[ ص: 455 ] وأيضا: فإن الله تعالى قد أخبر أنه تاب على آدم، واجتباه، وهو في الجنة قبل إهباطه إلى الأرض، فزال عنه العقاب قبل هبوطه.

وأما التأويل الثاني: وقوله: إن فيه إبطال قول الدهرية الذين يقولون إن الإنسان لا يتولد إلا من نطفة ودم الطمث.

فيقال له: قد أخبر [الله] في كتابه أنه خلق آدم من الماء والتراب، ومن الطين، ومن الحمإ المسنون، وهذه نصوص ظاهرات متواترات يسمعها العام والخاص، تبين أنه لم يخلق من نطفة ودم طمث، وتبطل هذا القول إبطالا بينا معلوما بالاضطرار.

فأما قول القائل: إن آدم خلق على صورة آدم، فليس في هذا القول دلالة على نفي كونه مخلوقا من غيره أصلا.

[ ص: 456 ] وقوله: خلق آدم على صورته ابتداء من غير تقدم نطفة، ثم علقة ومضغة، يقال له: خلق بعد تقدم تراب، وطين، وصلصال، ودلالة اللفظ على نفي هذا المتقدم كدلالته على نفي ذلك المتقدم، فإن كان قوله: "خلق آدم على صورة آدم" يقتضي خلقه ابتداء من غير تنقل أحوال، فهو ينفي الأمرين، وإلا فهو لا ينفي لا هذا ولا هذا، وهذا التخليط إنما وقع لكون الصورة التي خلق عليها جعلوها متأخرة عن الخلق وهو خلاف مدلول اللفظ.

وأما التأويل الثالث: وقوله: إن الإنسان لا يتكون في مدة أطول من مدد بنيه، وبواسطة الأفلاك والعناصر، فقوله: "خلق آدم على صورة آدم". أي: من غير هذه الوسائط، والمقصود منه الرد على الفلاسفة.

فيقال: هذا أظهر بطلانا من الأول، فإن آدم عليه السلام لم يتكون إلا في مدة أطول من مدد بنيه، ومن مادة أعظم من مواد بنيه، فإن الله خلقه من التراب والماء، وجعله صلصالا، وهذه [ ص: 457 ] هي العناصر.

وأيضا: فإنه أبقي أربعين [عاما] قبل نفخ الروح فيه. وولده إنما يبقون أربعة أشهر، قال تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا [الإنسان: 1] .

وأيضا: فاللفظ لا يدل على نفي ذلك بوجه من الوجوه، لا حقيقة ولا مجازا، بل هذه الدلالة من جنس ما تدعيه غالية الرافضة، ونحوهم من جهال الزنادقة، أن قول: إمام مبين هو: علي بن أبي طالب، بل ربما هذا أقوى، فإن لفظ الإمام فيه [ ص: 458 ] اشتراك وإلا فكون الشيء خلق على صورة نفسه المتقدمة أو المتأخرة أي شيء فيه مما ينفي كونه في مدة وخلق من مادة؟!

ثم إن هذا المؤسس مع كونه يحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على رفع تأثير الأفلاك والعناصر، ردا على الفلاسفة، يقرر في كتب له أخرى دلالة القرآن على تأثير الأفلاك والكواكب تارة عملا بما يأمر به المنجمون من الأخبار، وتارة أمرا بما يأمر به السحرة المشركون من عبادتها، فقد جعل كلام الله ورسوله متناقضا، حيث أثبت ذلك ونفاه، ثم إنه في جانب الإثبات يغلو حتى يأمر بما هو محرم، بل كفر، بإجماع المسلمين، وفي جانب النفي يغلو حتى يمنع كونها أسبابا كسائر الأسباب، وهذا من أعظم التناقض في ما جاء به الرسول، ومن جهة المعقول.

وأما التأويل الرابع: فقوله: المقصود منه بيان أن هذه الصورة الإنسانية إنما حصلت بتخليق الله، لا بتأثير القوة المصورة. يقال له: إن كان اللفظ دالا على ذلك [ ص: 459 ] [فإنما] يدل عليه قوله: "خلق الله آدم" كما ذكر ذلك في القرآن في غير موضع، إذ قوله: "على صورته" لا يتعرض لذلك، وإن لم يكن دالا عليه فهو باطل، وعلى التقديرين فدعوى أن قوله: "على صورته" بغير القوى الطبيعية دعوى باطلة.

ويقال له ثانيا: إخبار الله تعالى بأنه خلق آدم، وهو الخالق، أظهر وأشهر في القرآن، وعند العامة والخاصة من أن يكون المستفاد منه يحتاج إلى قوله: "على صورته".

ويقال له ثالثا: أي شيء في قوله: "على صورته" ما يمنع هذه القوى؟!.

ويقال له رابعا: ومن الذي يمنع وجود هذه القوى والطبائع، وأن الله هو خلقها، وخلق بها؟! كما أخبر في غير موضع من كتابه أنه يحدث الأشياء بعضها ببعض، كما في قوله تعالى: فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات [الأعراف: 57] .

التالي السابق


الخدمات العلمية