الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 247 ] قال ( فإن ادعى كل واحد منهما نكاح امرأة وأقاما بينة لم يقض بواحدة من البينتين ) لتعذر العمل بهما ; لأن المحل لا يقبل الاشتراك . قال ( ويرجع إلى تصديق المرأة لأحدهما ) لأن النكاح مما يحكم به بتصادق الزوجين ، وهذا إذا لم تؤقت البينتان ، فأما إذا وقتا فصاحب الوقت الأول أولى [ ص: 248 ] وإن أقرت لأحدهما قبل إقامة البينة فهي امرأته ) لتصادقهما ( وإن أقام الآخر البينة قضي بها ) لأن البينة أقوى من الإقرار [ ص: 249 ] ولو تفرد أحدهما بالدعوى والمرأة تجحد فأقام البينة وقضى بها القاضي له ثم ادعى الآخر وأقام البينة على مثل ذلك لا يحكم بها ) لأن القضاء الأول قد صح فلا ينقض بما هو مثله بل هو دونه ( إلا أن يؤقت شهود الثاني سابقا ) لأنه ظهر الخطأ في الأول بيقين . وكذا إذا كانت المرأة في يد الزوج ونكاحه ظاهر لا تقبل بينة الخارج إلا على وجه السبق .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( فإن ادعى كل واحد منهما ) أي من الرجلين ( نكاح امرأة وأقاما بينة لم يقض بواحدة من البينتين لتعذر العمل بها لأن المحل لا يقبل الاشتراك . قال : ويرجع إلى تصديق المرأة لأحدهما لأن النكاح مما يحكم به بتصادق الزوجين ) وحكي عن ركن الإسلام علي السغدي أنه لا تترجح إحداهما إلا بإحدى معان ثلاث : إحداهما إقرار المرأة ، والثانية كونها في يد أحدهما ، والثالثة دخول أحدهما بها إلا أن يقيم الآخر البينة أن نكاحه أسبق كذا في الشروح نقلا عن الخلاصة .

قال المصنف ( وهذا ) أي الحكم المذكور ( إذا لم تؤقت البينتان ، فأما إذا وقتا فصاحب الوقت الأول أولى ) لما فيه من زيادة الإثبات ، كذا في الكافي . قال صاحب العناية : ولقائل أن يقول : قوله فصاحب الوقت الأول أولى ليس بجلي ; لأنه إنما يكون أولى إذا كان الثاني بعده بمدة لا تحتمل انقضاء العدة فيها ، أما إذا احتملت ذلك فيتساويان [ ص: 248 ] لجواز أن الأول طلقها فتزوج بها الثاني . والجواب أن ذلك إنما يعتبر إذا كان دعوى النكاح بعد طلاق الأول وليس الكلام في ذلك ، وأيضا ما ذكرنا آنفا أن الثابت بالبينة كالثابت عيانا ، ولو عاينا تقدم الأول حكمنا به ، فكذا إذا ثبت بالبينة انتهى .

أقول : في الجواب الأول نظر ، لأنه إذا كان دعوى النكاح بعد طلاق الأول وأقيمت البينة عليها كان صاحب الوقت الثاني أولى قطعا ، وليس مدار السؤال على دعوى أولوية الثاني بل على منع أولوية الأول . وهذا المنع لا يتوقف على كون دعوى النكاح بعد طلاق الأول بل يتوجه أيضا على تقدير دعوى النكاح مطلقا : أي من غير تقييد بكونه بعد طلاق الأول فيما إذا احتملت المدة التي بين الوقتين انقضاء العدة لجواز أن الأول طلقها وانقضت عدتها فتزوج بها الثاني ، كما ذكر في السؤال فلم تثبت الأولوية في الأول مطلقا .

وأما الجواب الثاني فهو وإن كان صحيحا في نفسه إلا أن فيه نوع احتياج إلى بيان لمية الحكم بالأول ، فيما عاينا تقدمه أيضا مع الاحتمال المذكور ، فالأحسن هاهنا ما ذكره تاج الشريعة حيث قال : فإن قلت : أمكن العمل بالبينتين بتخلل الطلاق . قلت : لا يمكن لأن النكاح الثاني يحتمل أن يكون بعد الطلاق ويحتمل أن يكون مع بقاء الطلاق فلا يبطل النكاح الثابت للأول بالشك ، ولا يقال : يحمل أمرهما على الصلاح لأن هذا إنما يعتبر في الدفع لا في إبطال حق الغير وهاهنا لحاجة إلى الإبطال انتهى .

( وإن أقرت لأحدهما قبل إقامة البينة فهي امرأته لتصادقهما ، فإن أقام الآخر البينة قضي بها ; لأن البينة أقوى من الإقرار ) إذ البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة . وذكر في نكاح المبسوط : ولو تنازع رجلان في امرأة كل واحد منهما يدعي أنها امرأته ويقيم البينة . فإن كانت في بيت أحدهما أو كان دخل بها فهي امرأته لأن البينتين إذا تعارضتا على العقد تترجح إحداهما بالقبض . كما لو ادعى رجلان تلقي الملك في عين من ثالث بالشراء وأحدهما قابض وأقاما البينة كانت بينة صاحب اليد أولى . لأن فعل المسلم محمول على الصحة والحل ما أمكن .

والإمكان ثابت هنا بأن جعل نكاح الذي دخل بها [ ص: 249 ] ثابتا حين دخل ، وهذا لأن تمكنه من الدخول بها أو من نقلها إلى بيته دليل سبق عقده ، ودليل التاريخ كالتصريح بالتاريخ ، إلا أن يقيم الآخر البينة أنه تزوجها قبله فحينئذ سقط اعتبار الدليل في مقابلة التصريح بالسبق ، وإن لم تكن في يد أحدهما فأيهما أقام البينة أنه أول فهو أحق بها ; لأن الشهود شهدوا بسبق التاريخ في عقده ، والثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة أو بإقرار الخصم ، وإن لم يكن لهما على ذلك بينة فأيهما أقرت المرأة أنه تزوجها قبله أو أنه تزوجها دون الآخر فهي امرأته ، إما لأن بينته تترجح بإقرارها له كما بينا في جانب الزوج ، أو لأن البينتين لما تعارضتا وتعذر العمل بهما بقي تصادق أحد الزوجين مع المرأة على النكاح فيثبت النكاح بينهما بتصادقهما ، كذا في النهاية .

وأنت تعلم أن هذه بمنزلة الشرح لما في الكتاب ، وأنه يظهر منه أن قول القدوري : فإن ادعى كل واحد منهما نكاح امرأة وأقاما بينة لم يقض بواحدة من البينتين فيما إذا لم تكن المرأة في بيت أحدهما ولم يكن أحدهما دخل بها . واعلم أن هذا كله إذا كان التنازع حال حياة المرأة ، وأما إذا كان بعد وفاتها فهو على وجوه ولا يعتبر فيه الإقرار واليد ، فإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يقضى بالنكاح والميراث له ، ويجب عليه تمام المهر ، وإن لم يؤرخا أو أرخا على السواء فإنه يقضى بالنكاح بينهما ويجب على كل واحد من الزوجين نصف المهر ويرثان منها ميراث زوج واحد . فرق بين الدعوى حالة الحياة وبين الدعوى بعد الوفاة .

والفرق أن المقصود في حال الحياة هي المرأة وهي لا تصلح للشركة بينهما ، والمقصود بعد الوفاة هو الميراث وهو مال يقبل الشركة ، فإن جاءت بولد يثبت النسب من الأبوين ويرث الابن من كل واحد منهما ميراث ابن كامل لأن البنوة لا تتجزأ . كذا في غاية البيان نقلا عن الفصول ، وفي الفصول نقلا عن المحيط ( ولو تفرد أحدهما بالدعوى ) يعني أن الذي ذكر من قبل فيما إذا ادعيا معا ، ولو تفرد أحدهما بالدعوى ( والمرأة تجحد فأقام البينة وقضى بها القاضي له ثم ادعى آخر وأقام البينة على مثل ذلك لا يحكم بذلك ) أي بما ادعاه الثاني ( لأن القضاء الأول قد صح فلا ينقض بما هو مثله بل هو دونه ) أي لا ينقض القضاء بالبينة الثانية التي هي مثل الأولى ، بل دونها لأن الأولى تأكدت بالقضاء ، وهذا لأن في الظنيات لا ينقض المثل بالمثل ولهذا لا يهدم الرأي بالرأي ، كذا في غاية البيان ( إلا أن يؤقت شهود الثاني سابقا ) أي وقتا سابقا فإنه يقضي حينئذ بما ادعاه الثاني ( لأنه ظهر الخطأ الأول بيقين ) حيث ظهر أنه تزوج منكوحة الغير . أقول : في قول المصنف بيقين تسامح . لأن البينات من الظنيات لا من اليقينيات على ما صرحوا به ، ولعل صاحب الكافي تنبه له حيث ترك لفظة بيقين في تحريره ( وكذا إذا كانت المرأة في يد الزوج ونكاحه ظاهر لا تقبل بينة الخارج إلا على وجه السبق ) قد مر بيان هذه المسألة على الوجه الأتم فيما ذكرنا من قبل نقلا عن المبسوط




الخدمات العلمية