وأيضا فإنه قال: ونحن أقرب إليه منكم [الواقعة: 85] فأخبر عمن هو أقرب إلى المختصر من الناس الذين عنده في هذه الحال.
فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء. ولا يجوز أن يراد به قرب الرب الخاص، كما في قوله: وذات الرب -سبحانه وتعالى- إذا قيل: هي في كل مكان أو قيل: قريبة من كل موجود، لا تختص بهذا الزمان والمكان والأحوال، وإذا سألك عبادي عني فإني قريب [البقرة: 186] فإنما ذلك [ ص: 35 ] إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبده، وهذا المحتضر قد يكون كافرا أو فاجرا أو مؤمنا ومقربا، ولهذا قال تعالى: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم [الواقعة: 88-94]، ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصه الرب بقربه منه دون من حوله، وقد يكون حوله قوم مؤمنون، وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر.
كما قال تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم [النساء: 97]، وقال تعالى: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [الأنفال: 50]، وقال: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون [الأنعام:93]، وقال تعالى: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون [الأنعام:.61]، وقال تعالى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون [السجدة: 11]، ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال [ ص: 36 ] ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ق: 16]، وهذا كقوله سبحانه: نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون [القصص: 3]، وقال: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن [يوسف: 3]، وقال: إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [القيامة: 17-19].
فإن مثل هذا اللفظ ذكره الله تعالى في كتابه دل على أنه المراد أنه -سبحانه- يفعل ذلك بجنوده وأعوانه من الملائكة، فإن صيغة (نحن) يقولها المتبوع المطاع المعظم، الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحد جنود يطيعونه كطاعة الملائكة لربهم، وهو خالقهم وربهم، فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه، وملائكته تعلم، فكان لفظ (نحن) هنا هو المناسب، وكذلك قوله: ونعلم ما توسوس به نفسه [ق: 16] فإنه -سبحانه- يعلم ذلك، وملائكته يعلمون ذلك.
كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات، وإذا [ ص: 37 ] هم بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، وإن تركها لله كتبت له حسنة".
فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة، وليس ذلك من علمهم بالغيب، الذي اختص الله به.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث [ ص: 38 ] -رضي الله عنها-: صفية "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم".
[ ص: 39 ] وقرب الملائكة والشيطان من قلب ابن آدم مما تواترت به الآثار، سواء كان العبد مؤمنا أو كافرا.
[وبما ذكرنا تبين أن قول المؤسس لا وجه له. وبالله [ ص: 40 ] التوفيق].