الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2823 2824 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا سليمان بن شعيب ، قال : ثنا أسد قال : ثنا ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوءمة (ح)

                                                حدثنا أحمد بن داود ، قال : ثنا يعقوب بن محمد ، قال : ثنا معن بن عيسى ، عن ابن أبي ذئب ، عن صالح بن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - قال : " من صلى على جنازة في مسجد فلا شيء له " .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وأخرجه من طريقين :

                                                الأول : عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب محمد بن الحسن الشيباني ، عن أسد بن موسى ، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب [ ص: 318 ] المدني ، عن صالح بن نبهان مولى التوءمة بنت أمية بن خلف الجمحي المدني ، عن أبي هريرة .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا مسدد ، عن يحيى ، عن ابن أبي ذئب ، قال : حدثني صالح مولى التوءمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء [له] " .

                                                الثاني : عن أحمد بن داود المكي ، عن يعقوب بن محمد بن طحلاء المدني ، عن معن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي المدني ، عن محمد بن الحارث بن أبي ذئب المدني ، عن صالح بن أبي صالح مولى التوءمة ، عن أبي هريرة .

                                                وأخرجه ابن ماجه : ثنا علي بن محمد ، نا وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوءمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "من صلى على جنازة في المسجد فليس له شيء " .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " : ثنا حفص بن غياث ، عن ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوءمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "من صلى على جنازة في المسجد فلا [صلاة] له ، قال : وكان أصحاب رسول الله - عليه السلام - إذا تضايق المكان رجعوا ولم يصلوا " .

                                                فإن قيل : ما حال هذا الحديث ؟

                                                قلت : رجاله كلهم ثقات ، غير أنهم طعنوا فيه بسبب صالح مولى التوءمة وقالوا : إنه ضعيف ، ولما روى ابن عدي هذا الحديث في "الكامل " عده من [ ص: 319 ] منكرات صالح ، ثم أسند إلى شعبة أنه كان لا يروي عنه وينهى عنه . وإلى مالك أنه قال : لا تأخذوا عنه شيئا ; فإنه ليس بثقة . وإلى النسائي أنه قال فيه : ضعيف . وأسند عن ابن معين أنه قال فيه : ثقة ، لكنه اختلط قبل موته ، فمن سمع منه قبل ذلك فهو ثبت حجة . وقال البيهقي : وفي سنده صالح مولى التوءمة مختلف في عدالته ، كان مالك يجرحه . هذا ما ذكروا ولكنه لا يتمشى ; لأن صاحب "الكمال " ذكر عن ابن معين أنه قال : صالح ثقة حجة . قيل : إن مالكا ترك السماع منه ، قال : إنما أدركه مالك بعدما كبر وخرف ، والثوري إنما أدركه بعدما خرف فسمع منه أحاديث منكرات ، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف ، ومن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت ، وقال العجلي : صالح ثقة وقال ابن عدي : لا بأس به إذا سمعوا منه قديما مثل ابن أبي ذئب وابن جريج وزياد بن سعد وغيرهم ، ولا أعرف له قبل الاختلاط حديثا منكرا إذا روى عنه ثقة ، وقال أحمد بن حنبل : ما أعلم بأسا ممن سمع منه قديما .

                                                فثبت بهذا أن هذا الحديث صحيح ; لأنهم كلهم اتفقوا أن صالحا ثقة قبل اختلاطه ، وإنما تكلموا فيه لأجل اختلاطه ، ولا اختلاف في عدالته ، وأن ابن أبي ذئب سمع منه هذا الحديث قديما قبل اختلاطه ، فصار الحديث حجة .

                                                فإن قيل : قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء " : اختلط صالح بآخر عمره ولم يتميز حديثه ، حديثه من قديمه ، فاستحق الترك . ثم ذكر له هذا الحديث وقال : إنه باطل . وكيف يقول رسول الله - عليه السلام - ذلك وقد صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد ؟!

                                                وقال النووي : أجيب عن هذا بأجوبة :

                                                أحدها : أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به ، قال أحمد بن حنبل : هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوءمة ، وهو ضعيف . [ ص: 320 ] والثاني : أن الذي في النسخ المشهورة المسموعة في "سنن " أبي داود : "فلا شيء عليه " ، فلا حجة فيه .

                                                الثالث : أن "اللام " فيه بمعنى "على " كقوله تعالى : وإن أسأتم فلها أي فعليها جمعا بين الأحاديث .

                                                قلت : أما قول ابن حبان : إنه باطل ; كلام باطل ; لأن مثل أبي داود أخرج هذا الحديث وسكت عنه ، فأقل الأمر منه أنه يدل على حسنه عنده ، وأنه رضي به .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجه وغيرهم فتشنيعه كله بسبب اختلاط صالح ، وقد ذكرنا أنهم كلهم مجمعون على عدالته وعلى ثقته قبل الاختلاط ، وأن من أخذ منه قبل الاختلاط فهو صحيح . وقالوا أيضا : إن ابن أبي ذئب أخذ عنه قديما قبل اختلاطه ، فكيف يكون باطلا ؟! وكيف يسوغ التلفظ بمثل هذا الكلام لإبراز التعصب ؟! والعجب منه أنه يقول : وكيف يقول رسول الله - عليه السلام - ذلك وقد صلى على سهيل ؟! فكأنه نسي باب النسخ ، ومثل هذا كثير قد فعل رسول الله - عليه السلام - شيئا ثم تركه أو نهى عنه .

                                                والجواب عن قول النووي : أما قوله : إنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به ; إن كان مراده أنه ضعيف قبل الاختلاط فلا نسلم ذلك ; لما ذكرنا أنهم مجمعون على عدالته وعلى ثقته قبل الاختلاط ، وإن كان مراده بعد الاختلاط فمسلم ولكن لا يضرنا ذلك ; لما قلنا : إن ابن أبي ذئب أخذ منه قبل الاختلاط .

                                                وأما قوله : إن النسخة الصحيحة : "فلا شيء عليه " مجرد دعوى فلا تقبل إلا ببرهان ، ويرده أيضا قول الخطيب : المحفوظ : "فلا شيء له " .

                                                وأما قوله : إن اللام فيه بمعنى على عدول عن الحقيقة من غير ضرورة ولا سيما على أصلهم : أن المجاز ضروري لا يصار إليه إلا عند الضرورة ، ولا ضرورة ها هنا ، [ ص: 321 ] ويرد ذلك أيضا رواية ابن أبي شيبة : "فلا صلاة له " فإنه لا يمكن له أن يقول ها هنا اللام بمعنى على لفساد المعنى . فافهم .

                                                فثبت مما ذكرنا أن الأخذ بهذا الحديث أولى من الأخذ بحديث عائشة ; لأن الناس عابوا ذلك عليها وأنكروه ، وجعله بعضهم بدعة ، فلولا اشتهار ذلك عندهم لما فعلوه ، ولا يكون ذلك إلا لأصل عندهم ; لأنه يستحيل عليهم أن يروا رأيهم حجة على حديث عائشة ، ولم يحفظ عن النبي - عليه السلام - أنه صلى في المسجد على غير ابن البيضاء ، ولما نعى النجاشي إلى الناس خرج بهم إلى المصلى فصلى عليه ، ولم يصل عليه في المسجد مع غيبته فالميت الحاضر أولى أن لا يصلى عليه في المسجد . والله أعلم .



                                                الخدمات العلمية