الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2646 2647 2648 2649 ص: غير أن أبا ذر - رضي الله عنه - روى عن النبي - عليه السلام - أنه فصل بين الكلب الأسود من غيره من الكلاب ، فجعل الأسود يقطع الصلاة ، وجعل ما سواه بخلاف ذلك ، وأن رسول الله - عليه السلام - سئل عن ذلك فقال : " الأسود شيطان " .

                                                فدل ذلك على أن المعنى الذي وجب به قطعه إنما هو لأنه شيطان ، فأردنا أن ننظر هل عارض ذلك شيء ؟ [ ص: 124 ] فإذا يونس قد حدثنا ، قال : أنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا كان أحدكم يصلي ، فلا يدعن أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع ، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان " .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا أبو ظفر ، قال : ثنا سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - عليه السلام - مثله .

                                                حدثنا أحمد بن داود ، قال : ثنا يعقوب بن حميد ، قال : ثنا عبد العزيز بن محمد ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ،

                                                وعن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، جميعا عن النبي - عليه السلام - مثله .

                                                ففي هذا الحديث أن كل مار بين يدي المصلي شيطان . وقد سوى في هذا بني آدم والكلب الأسود إذا مروا بين يدي المصلي .

                                                التالي السابق


                                                ش: استثنى هذا الكلام عما قبله ; ليبين وجه التوفيق بين ما روي عن ابن عباس والفضل وبين ما روي عن أبي ذر الغفاري جندب بن جنادة المذكور في أول الباب ; وذلك لأن أبا ذر روى أن الكلب الأسود هو الذي يقطع الصلاة ، وأن خلافه من الكلاب بخلاف ذلك ، وهما رويا أن الكلب مطلقا لا يقطع الصلاة .

                                                وجه التوفيق في ذلك : هو أن النبي - عليه السلام - لما سئل عن الكلب الأسود قال : الأسود شيطان ، فعلل بأن المعنى الموجب لقطع الأسود هو كونه شيطانا ، فإذا كانت العلة هذه فقد وجدنا في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - جعل كل مار بين يدي المصلي شيطانا ، وهو بعمومه يتناول بني آدم والكلب الأسود والأبيض والأحمر وغير ذلك ، فعلم من ذلك أن الكلب على سائر ألوانه حكمه في هذا الأمر كحكم غيره من بني آدم والحمار ، في عدم القطع ; لأنه - عليه السلام - أمر بالدرء في حق كل مار ولم يخص مارا عن مار .

                                                فإن قيل : إذا سلم ذلك ، فما وجه التخصيص بذكر الأسود ؟ [ ص: 125 ] قلت : قد قيل : إن الكلب الأسود جنس من الشياطين أو إن الشياطين غالبا يتمثلون بصورة الكلب الأسود ; فلذلك خصصه بالذكر ، مع أن حكم الكل سواء كما ذكرناه .

                                                ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد الخدري سعد بن مالك - رضي الله عنه - من ثلاث طرق صحاح .

                                                الأول : عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم القرشي ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي سعيد الخدري .

                                                وأخرجه مسلم : نا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك . . . إلى آخره نحوه . وأبو داود : عن القعنبي ، عن مالك .

                                                والنسائي : عن قتيبة ، عن مالك نحوه ، غير أنه ليس في روايته : "فإنما هو شيطان " .

                                                الثاني : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أبي ظفر عبد السلام بن مطهر شيخ البخاري وأبي داود ، عن سليمان بن المغيرة القيسي البصري روى له الجماعة ، عن حميد بن هلال بن هبيرة العدوي روى له الجماعة ، عن أبي صالح ذكوان الزيات ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - عليه السلام - نحوه .

                                                وأخرجه البزار في "مسنده " : حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن يونس بن عبيد ، عن حميد بن هلال ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - عليه السلام - قال : "إذا كان أحدكم يصلي فأراد أحد أن يمر بين يديه فليمنعه ، فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان " وهذا الحديث لا نعلم رواه عن يونس ، عن حميد بن هلال ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد إلا عبد الوارث ، وقد رواه سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد . [ ص: 126 ] الثالث : عن أحمد بن داود المكي ، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة ، شيخ البخاري في "أفعال العباد " ، وعن ابن معين : ثقة . وقال أبو زرعة : صدوق وذكره ابن حبان في "الثقات " .

                                                عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن صفوان بن سليم المدني روى له الجماعة ، عن عطاء بن يسار .

                                                عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، جميعا عن أبي سعيد ، عن النبي - عليه السلام - .

                                                وأخرجه السراج في "مسنده " : ثنا قتيبة بن سعيد الثقفي ، ثنا عبد العزيز -وهو ابن محمد- عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعن أحدا يمر بين يديه ، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان " .

                                                قوله : "فلا يدعن " بنون التأكيد المشددة ، أي فلا يتركن .

                                                قوله : "وليدرأه ما استطاع " أي وليدفعه قدر استطاعته .

                                                قال القاضي عياض : أي ليدفعه ويمنعه عن ذلك ، ولا يسامحه في المرور ، وهو معنى قوله : "ما استطاع " .

                                                قوله : "فإن أبى " أي امتنع .

                                                "فليقاتله " قال القاضي : أي إن أبى بالإشارة ولطيف المعنى ; فليمانعه ، وليدافعه بيده عن المرور ، وليعنف عليه في رده .

                                                قال أبو عمر : هذا لفظ جاء على وجه التغليظ والمبالغة .

                                                وقال الباجي : يحتمل أن يكون بمعنى فليلعنه ، فالمقاتلة بمعنى اللعن موجودة ، قال الله تعالى : قتل الخراصون قال : ويحتمل أن تكون بمعنى : فليعنفه على فعله ذلك ، وليؤاخذه ، وخرج من ذلك معنى المقاتلة المعلومة بالإجماع . [ ص: 127 ] قوله : "فإنما هو شيطان " قال القرطبي : يحتمل أن يكون معناه : الحامل له على ذلك شيطان ، يؤيده حديث ابن عمر عند مسلم : "لا يدع أحدا يمر بين يديه ، فإن أبى فليقاتله ، فإن معه القرين " .

                                                وعند ابن ماجه : "فإن معه العزى " وقيل : معناه فإنما هو فعل الشيطان لشغل قلب المصلي كما يخطر الشيطان بين المرء ونفسه من قولهم : بئر شطون أي بعيدة ، ومنه سمي الشيطان لبعده عن رحمة الله ، فسماه شيطانا لاتصافه بوصفه ، كما يقال : فلان الأسد ، أي يبطش ويقوى كبطشه وقوته .

                                                قلت : فعلى هذا يكون هذا من باب التشبيه البليغ ، نحو زيد أسد ، شبه المار بين يديه بالشيطان لاشتراكهما في شغل قلب المصلي والتشويش عليه .

                                                ثم اعلم أن الشيطان اسم لكل متمرد ، قال الجوهري : كل عات متمرد من الإنس والجن والدواب فهو شيطان ، فعلى هذا يجوز حمل الكلام على ظاهره .

                                                ويستفاد منه أحكام :

                                                الأول : أن المصلي لا يمكن أحدا من المرور بين يديه لقوله : "فلا يدعن أحدا يمر بين يديه " .

                                                الثاني : أنه يدفع المار مهما أمكن ، فإن امتنع عليه فليقاتله بمعنى فليعنف في المنع عنه كما ذكرنا .

                                                وقال النووي : هذا أمر ندب متأكد ، ولا أعلم أحدا من الفقهاء أوجبه قال القاضي عياض : وأجمعوا أنه لا يلزمه مقاتلته بالسلاح ولا ما يؤدي إلى هلاكه فإن دفعه بما يجوز فهلك من ذلك فلا قود عليه باتفاق العلماء ، وهل تجب ديته أم تكون هدرا فيه مذهبان للعلماء ، وهما قولان في مذهب مالك .

                                                قال : ابن شعبان عليه الدية في ماله كاملة وقيل : هي على عاقلته ، وقيل : هدر . ذكره ابن التين . [ ص: 128 ] قال عياض : واتفقوا على أنه لا يجوز له المشي إليه من موضعه ليرده ، وإنما يدافعه ويرده من موقفه ; لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره بين يديه ، وإنما أبيح له قدر ما يناله من موقفه ، وإنما يرده إذا كان بعيدا منه بالإشارة والتسبيح ، واتفقوا على أنه إذا مر لا يرده كيلا يصير مرورا ثانيا ، وقد روي عن البعض : يرده .

                                                واختلفوا إذا جاز بين يديه وأدركه هل يرده أم لا ؟ فقال ابن مسعود : يرده وروي ذلك عن سالم والحسن ، وقال أشهب : يرده بإشارة ولا يمشي إليه ; لأن مشيه أشد من مروره ; فإن مشى إليه ورده لم تفسد صلاته .

                                                فإن قيل : المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي أو هو من أجل مرور المار ؟

                                                قلت : الظاهر أنه من أجل مرور المار ، يدل عليه قوله - عليه السلام - : "لأن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه " وقال في حق المصلي : " إن الصلاة لا يقطعها شيء " .

                                                الثالث : أن المقاتلة المذكورة إنما تكون بعد الدفع لاحتمال أن يكون المار ساهيا أو لم ير المصلي أو لم يتبين له أنه يصلي أو فعله عامدا ; فإن رجع حصل المقصود ، فإن لم يرجع قوتل وحكى السفاقسي عن أبي حنيفة بطلان الصلاة بالدفع ، وهو قول الشافعي في القديم وقال ابن المنذر : يدفع في نحوه أولا مرة ، ويقاتله في الثانية ، وقيل : يؤاخذه على ذلك بعد إتمام الصلاة ويؤنبه ، وقيل : يدفعه دفعا شديدا أشد من الرد منكرا عليه ، وهذا كله ما لم يكثر ، فإن أكثر فسدت صلاته وضمن عمر بن عبد العزيز رجلا دفع آخر وهو يصلي فكسر أنفه دية ما جنى على أنفه .



                                                الخدمات العلمية