الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2739 2740 2741 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا مبشر بن الحسن ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا شعبة ، عن ليث بن أبي سليم ، قال : سمعت أبا بردة يحدث ، عن أبيه : " أن النبي - عليه السلام - مر عليه بجنازة وهم يسرعون بها ، فقال : "ليكن عليكم السكينة " .

                                                فلم يكن عندنا في هذا الحديث حجة على أهل المقالة الأولى ; لأنه قد يجوز أن يكون في مشيهم ذلك عنف ، يجاوز ما أمروا به في الأحاديث الأول من السرعة ، فنظرنا في ذلك هل نجد في ذلك دليلا يدلنا على شيء من ذلك ؟ فإذا عبد الله بن محمد بن خشيش البصري قد حدثنا ، قال : ثنا أبو الوليد ، قال : ثنا زائدة ، عن ليث ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، قال : " مر على رسول الله بجنازة يسرعون بها المشي وهي تمخض كمخض الزق ، فقال : عليكم بالقصد بجنائزكم " .

                                                معنى هذا الحديث أن الميت كان يمخض لتلك السرعة كمخض الزق ، فيحتمل أن يكون أمرهم بالقصد ; لأن تلك السرعة سرعة يخاف منها أن يكون من الميت شيء ، فنهاهم عن ذلك ، فكان ما أمرهم به من السرعة في الآثار الأول هي أفضل من هذه السرعة .

                                                فنظرنا في ذلك أيضا هل روي فيه شيء يدلنا على شيء من هذا المعنى ؟ فإذا أبو أمية ، قد حدثنا ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أنا الحسن بن صالح ، عن يحيى الجابر ، عن أبي ماجدة ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : " سألنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن السير بالجنازة ، فقال : ما دون الخبب ، فإن يك مؤمنا عجل بالخير ، وإن يك كافرا فبعدا لأهل النار " .

                                                فأخبر رسول الله - عليه السلام - في هذا الحديث أن السير بالجنازة هو ما دون الخبب ، . فذلك عندنا دون ما كانوا يفعلون في حديث أبي موسى ، حتى أمرهم رسول الله - عليه السلام - بما [ ص: 234 ] أمرهم به من ذلك ، ومثل ما أمر به من السرعة في حديث أبي هريرة ; فبهذا نأخذ ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد رحمهم الله .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بما حدثنا مبشر . . . إلى آخره ، وهو حديث أبي موسى الأشعري ولكن لا حجة فيه على أهل المقالة الأولى ، لأنه يحتمل أن يكون قد كان في مشيهم ذلك عنف أي شدة إسراع وإزعاج للميت قد تجاوز ما كانوا أمروا به في الأحاديث الأول من السرعة ، وهي الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى المذكورة في أول الباب ، فإذا كان كذلك يحتاج إلى النظر فيه ، هل يوجد ما يدل على شيء من ذلك ؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا حديثا آخر عن أبي موسى الأشعري أيضا يخبر أن الميت كان يمخض من مشيهم وعنفهم فيه كما يمخض الزق ، فلذلك قال لهم : - عليه السلام - "عليكم بالقصد بجنائزكم " ولكن هذا أيضا يحتمل أن يكون أمره إياهم بالقصد لكون تلك السرعة سرعة يخاف منها أن يخرج من الميت شيء ، فلذلك أمرهم بالقصد في المشي ونهاهم عن تلك السرعة ، فيكون حينئذ ما أمرهم به من السرعة المذكورة في الأحاديث الأول أفضل من هذه السرعة ، ولكن يحتاج هذا إلى دليل يدل عليه ، فوجدنا حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أخبر أن السير بالجنازة هو ما دون الخبب -وهو ما دون العدو- فهذا دون ما فعلوا من الإسراع المذكور في حديث أبي موسى ، ومثل ما أمر به من السرعة المذكورة في حديث أبي هريرة .

                                                قال الطحاوي : وبهذا نأخذ أي وبما دل عليه حديث ابن مسعود من السير دون الخبب نأخذ ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله ، وعن هذا قال أصحابنا في كتبهم : ويسرعون به -أي بالميت- دون الخبب .

                                                فالحاصل أنه أشار ها هنا إلى ثلاثة مذاهب : الأول الإسراع من غير قيد ، والثاني المشي اللين ، والثالث الإسراع دون الخبب ، وصرح بالمذهبين الأولين بقوله : فذهب قوم إلى أن السرعة بالسير بالجنازة أفضل من غير ذلك ، وقوله وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا بل يمشي بها مشيا لينا فهو أفضل من غير ذلك ، وبين المذهب [ ص: 235 ] الثالث الذي هو مذهب أصحابنا في وجه التوفيق بين الأحاديث في هذا الباب بقوله : فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله .

                                                ثم إنه أخرج حديث أبي موسى - رضي الله عنه - من وجهين بإسنادين رواتهما ثقات .

                                                الأول : عن مبشر بن الحسن بن مبشر بن مكسر القيسي البصري نزيل مصر وثقه ابن يونس ، عن أبي عامر العقدي عبد الملك بن عمرو روى له الجماعة ، عن شعبة ، عن ليث بن أبي سليم بن زنيم الكوفي روى له الجماعة البخاري مستشهدا ومسلم مقرونا بأبي إسحاق الشيباني ، عن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري روى له الجماعة عن أبيه أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي - رضي الله عنه - .

                                                وأخرجه ابن ماجه : ثنا محمد بن عبيد بن عقيل ، نا بشر بن ثابت ، ثنا شعبة ، عن ليث ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي - عليه السلام - : "أنه رأى جنازة يسرعون بها ، قال : لتكن عليكم السكينة " .

                                                وأخرجه البيهقي أيضا .

                                                الثاني : عن عبد الله بن محمد بن خشيش -بالمعجمات وضم الأول- عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود ، عن زائدة بن قدامة الثقفي الكوفي روى له الجماعة ، عن ليث بن أبي سليم ، عن أبي بردة عامر ، عن أبيه . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه " : من حديث زائدة ، عن ليث . . . إلى آخره نحوه .

                                                قوله : "وهي تمخض " على صيغة المجهول ، جملة حالية من المخض وهو تحريك السقاء الذي فيه اللبن ليخرج زبده ، وأراد وهي تحرك تحريكا سريعا كتحريك الزق وهو قربة اللبن . [ ص: 236 ] قوله : "فعليكم بالقصد " أي بالاعتدال لا بالإسراع المفرط ولا بالمشي البطيء ، والقصد من الأمور : الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط ، ومنه الحديث : "كانت صلاته قصدا ، وخطبته قصدا " وجاء في صفته - عليه السلام - : "كان أبيض مقصدا" وهو الذي ليس بطويل متباين ولا قصير متفاحش .

                                                وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي ، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري ، عن الحسن بن صالح بن صالح بن حي الثوري الكوفي العابد روى له الجماعة البخاري ذكره في كتاب الشهادات ، عن يحيى بن عبد الله الجابر ويقال : المجبر أبي الحارث الكوفي وثقه الترمذي ، عن أبي ماجدة ويقال : أبو ماجد واسمه عائذ بن نضلة العجلي الكوفي قال الترمذي : مجهول له حديثان . وقال النسائي : منكر الحديث . روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه .

                                                عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .

                                                وأخرجه أبو داود بأتم منه : ثنا مسدد ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن يحيى المجبر ، قال : أبو داود هو يحيى بن عبد الله التميمي ، عن أبي ماجدة ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - : "سألنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن المشي مع الجنازة ، فقال : ما دون الخبب ، فإن يك خيرا يعجل إليه ، وإن يك غير ذلك فبعدا لأهل النار ، والجنازة متبوعة ولا تتبع ليس منها من يقدمها " .

                                                وأخرجه الترمذي : ثنا محمود بن غيلان ، قال : ثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن يحيى إمام بني تيم الله ، عن أبي ماجدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : "سألنا رسول الله - عليه السلام - عن المشي خلف الجنازة ، فقال : ما دون الخبب ، فإن كان خيرا [ ص: 237 ] عجلتموه ، وإن كان شرا فلا يبعد إلا أهل النار ، والجنازة متبوعة ولا تتبع ، ليس منها من تقدمها " .

                                                وأخرجه ابن ماجه : مقتصرا على قوله : "الجنازة متبوعة . . . " إلى آخره .

                                                وقال البيهقي : هذا حديث ضعيف .

                                                وقال الترمذي : هذا حديث لا يعرف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه ، وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث -يعني حديث أبي ماجد- قال الحميدي : قال ابن عيينة قيل ليحيى : من أبو ماجد ؟ قال : طائر طار فحدثنا .

                                                قال أبو عيسى : إن أبا ماجدة رجل مجهول لا يعرف ، إنما يروى عنه حديثان عن ابن مسعود . وقال أبو أحمد الكرابيسي : حديثه ليس بالقائم ، وقال الدارقطني : مجهول متروك .

                                                قلت : أما يحيى الجابر فإن الترمذي قال : يحيى إمام بني تيم الله ثقة يكنى أبا الحارث ، ويقال له : يحيى الجابر ، ويقال له : يحيى المجبر ، وهو كوفي روى له شعبة وسفيان الثوري وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة .

                                                وأما أبو ماجدة فإن أبا داود لما ذكره قال : هو بصري . ولم يقل شيئا غير ذلك ، فدل أنه رضيه ، وترتفع جهالته بذلك المقدار ، وقد ذكرنا أن اسمه عائذ ، واسم أبيه نضلة فإذا عرف اسم الشخص واسم أبيه ونسبته إلى القبيلة والبلد لم تبق فيه جهالة .

                                                ولهذا رواه ابن خزيمة في "صحيحه " : ثنا نصر بن علي ، ثنا عبد المؤمن بن عبادة ، ثنا أيوب السختياني ، عن أبي ماجدة ، عن ابن مسعود قال : "مرت على [ ص: 238 ] رسول الله - عليه السلام - جنازة تمخض مخض الزق ، فقال : رسول الله - عليه السلام - : عليكم بالقصد في مشي جنائزكم دون الهرولة ، فإن كان خيرا أعجلتم إليه ، وإن كان شرا فلا يبعد الله إلا أهل النار ، إن الجنازة متبعة وليست متابعة ، ليس معها من تقدمها " .

                                                قوله : "فإن يك مؤمنا " أي فإن يك الميت مؤمنا عند الله "عجل بالخير " أي بحصول الخير له عند الله ، أو بلحاقه إلى الخير .

                                                قوله : "فبعدا لأهل النار " أي أبعد الله بعدا ، وهو منصوب بالفعل المضمر ; لأنه من المصادر المنصوبة بأفعال مضمرة لا يستعمل إظهارها ، كقولك شقيا ، وخيبة ، وجدعا ، وعقرا ، وبؤسا ، وبعدا ، وسحقا وحمدا وشكرا ، ومثل هذا يستعمل في الدعاء في الخير أو الشر .




                                                الخدمات العلمية