الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2971 ص: حدثنا فهد ، قال : ثنا يوسف بن بهلول ، قال : ثنا عبد الله بن إدريس ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، قال : حدثني سلمان الفارسي . . . وذكر حديثا طويلا ذكر فيه : " أنه كان عبدا قال : فلما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله - عليه السلام - وهو بقباء -فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه- فقلت له : إنه بلغني أنه ليس بيدك شيء وأن معك أصحابا لك ، وأنتم أهل حاجة وغربة ، وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة ، فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق به ، ثم وضعته له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كلوا وأمسك هو ، ثم أتيته بعد أن تحول إلى المدينة وقد جمعت شيئا ، فقلت : رأيتك لا تأكل الصدقة وقد كان عندي شيء أحببت أن أكرمك به كرامة ليس بصدقة ، فأكل وأصحابه " .

                                                التالي السابق


                                                ش: إسناده صحيح . [ ص: 514 ] ويوسف بن بهلول التميمي أبو يعقوب الأنباري نزيل الكوفة ، شيخ البخاري وأحد أصحاب أبي حنيفة - رضي الله عنه - .

                                                وعبد الله بن إدريس بن يزيد الزعافري الكوفي شيخ أحمد وابن أبي شيبة ، روى له الجماعة .

                                                ومحمد بن إسحاق المدني ، روى له الجماعة ، البخاري مستشهدا ومسلم في المتابعات .

                                                وعاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري الظفري ، روى له الجماعة .

                                                ومحمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأنصاري ، ولد في حياة النبي - عليه السلام - ولم تصح له رؤية ولا سماع من النبي - عليه السلام - ، وعن البخاري أن له صحبة .

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده " مطولا جدا : ثنا يعقوب ، نا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - ، حدثني سلمان الفارسي قال : "كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان ، من أهل قرية منها يقال لها : جي ، وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحب خلق الله إليه ، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار [الذي] يوقدها لا يتركها تخبو ساعة . قال : وكانت لأبي ضيعة عظيمة ، قال : فشغل في بنيان له يوما ، فقال لي : يا بني ، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم وعن ضيعتي فاذهب فاطلعها ، وأمرني فيها ببعض ما يريد ، فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما مررت بهم ، وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون ، قال : فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ، ورغبت في أمرهم ، وقلت : هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس ، وتركت ضيعة أبي ولم آتها [ ص: 515 ] فقلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام . قال : ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله . قال : فلما جئته قال : أي بني أين كنت ؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ قال : قلت : يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس ، قال : أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه . قال : قلت : كلا والله إنه لخير من ديننا . قال : فخافني ، فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته . قال : وبعثت إلى النصارى فقلت لهم : إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم . قال : فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى ، قال : فأخبروني بهم . قال : فقلت لهم : إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم . قال : فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها قلت : من أفضل أهل هذا الدين ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة ، قال : فجئته فقلت : إني رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك . قال : فادخل ، فدخلت معه قال : فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا إليه منها أشياء كثيرة اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق . قال : وأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها ، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا ، قالوا : وما علمك بذلك ؟ قال : قلت : أنا أدلكم على كنزه ، قالوا : فدلنا عليه ، قال : فأريتهم موضعه ، قال : فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا ، قال : فلما رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبدا ، قال : فصلبوه ثم رجموه بالحجارة ، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه ، قال : يقول سلمان : فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ونهارا منه ، قال : فأحببته حبا لم أحبه من قبله فأقمت معه زمانا ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان إني كنت [ ص: 516 ] معك ، وأحببتك حبا لم أحبه من قبلك ، وقد جاءك ما ترى من أمر الله فإلى من توصي به وما تأمرني ؟ قال : أي بني والله ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل ، وهو فلان فهو على ما كنت عليه ، فالحق به ، قال : فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره ، قال : فقال لي : أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلم يلبث إلى أن مات ، فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصى بي إليك ، وأمرني باللحوق بك ، وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، قال : فإلى من توصي بي ، وما تأمرني ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين [وهو فلان فالحق به ، قال : فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين] ، فجئته فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي ، قال : فأقم عندي ، فأقمت عنده ووجدته على أمر صاحبيه ، فأقمت مع خير رجل ، فوالله ما لبثت أن نزل به الموت ، فلما حضر قلت له : يا فلان ، إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي ، وما تأمرني ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلم أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فإنه على أمرنا ، قال : فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري ، فقال : أقم عندي ، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم ، قال : واكتسبت حتى صارت لي بقرات وغنيمة ، قال : ثم نزل به أمر الله -عز وجل- ، فلما حضر قلت : يا فلان ، إني كنت مع فلان ، فأوصى بي فلان إلى فلان ، وأوصى بي فلان إلى فلان وأوصى بي فلان إلى فلان ، وأوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي وما تأمرني ؟ قال : يا بني ، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظلك زمان نبي ، هو مبعوث بدين إبراهيم - عليه السلام - يخرج بأرض العرب مهاجرا إلى أرض بين [ ص: 517 ] حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى ، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ، قال : ثم مات وغيب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، ثم مر بي نفر من كلب تجارا ، فقلت لهم : تحملوني إلى ، أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه ؟ قالوا : نعم فأعطيتموها وحملوني ، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل من يهود عبدا ، فكنت عنده ورأيت النخل ، ورجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق لي في نفسي ، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة ، فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبعث الله رسوله - عليه السلام - ، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه ، فقال فلان : قاتل الله بني قيلة ، والله إنهم الآن لمجمعون على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعم أنه نبي قال : فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت سأسقط على سيدي ، قال : ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك : ماذا تقول ؟ قال : فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة ، ثم قال : ما لك ولهذا ؟ أقبل على عملك . قال : قلت : لأي شيء ؟ إنما أردت أن أستثبته عما قال ، وقد كان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله - عليه السلام - وهو بقباء ، فدخلت عليه فقلت : إنه بلغني أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم . قال : فقربته إليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : كلوا ، وأمسك يده فلم يأكل ، قال : فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا ، وتحول رسول الله - عليه السلام - إلى المدينة ، ثم جئت به ، فقلت : إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها ، قال : فأكل رسول الله - عليه السلام - منها ، وأمر أصحابه فأكلوا معه ، قال : فقلت في نفسي : هاتان اثنتان ، قال : ثم جئت رسول الله - عليه السلام - وهو ببقيع الغرقد قال : وقد تبع جنازة [ ص: 518 ] من أصحابه عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره ، وهل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ؟ فلما رآني رسول الله - عليه السلام - استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي ، قال فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفت ، فانكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال لي رسول الله - عليه السلام - : تحول ، فتحولت فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله - عليه السلام - أن يسمع ذلك أصحابه ، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله - عليه السلام - بدر وأحد ، قال : ثم قال لي رسول الله - عليه السلام - : كاتب يا سلمان ، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أجبيها له بالفقير وبأربعين أوقية ، فقال رسول الله - عليه السلام - لأصحابه : أعينوا أخاكم ، فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية ، والرجل بعشرين والرجل بخمس عشرة والرجل بعشرة يعين الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية ، فقال لي رسول الله - عليه السلام - : اذهب يا سلمان ففقر لها ، فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي ، قال : ففقرت لها وأعانني أصحابي ، حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته ، فخرج رسول الله - عليه السلام - معي إليها ، فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله - عليه السلام - بيده ، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة ، فأديت النخل وبقي علي المال ، فأتى رسول الله - عليه السلام - بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي ، فقال : ما فعل الفارسي ؟ قال : فدعيت له ، فقال : خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان ، قال : فقلت : وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي ؟ قال : خذها فإن الله سيؤدي بها عنك ، قال : فأخذتها فوزنت لهم منها -والذي نفس سليمان بيده- أربعين أوقية ، فأوفيتهم حقهم وعتقت ، وشهدت مع رسول الله - عليه السلام - الخندق ، ثم لم يفتني معه مشهد " .

                                                قوله : "جي " بالجيم المكسورة والمفتوحة .

                                                قوله : "قطن النار " أي : خازن النار .

                                                قوله : "لا تخبو ساعة " أي : لا يتركها تسكن ساعة . [ ص: 519 ] قوله : "الأسقف " من السقيفى كالخليفة من الخليفى وهي مرتبة من قبل الملك ، والسقيف في اللغة : طول في انحناء ، ويحتمل أن يسمى أسقفا لخضوعه وانحنائه .

                                                قوله : "سبع قلال " جمع قلة -بضم القاف- وهي معروفة .

                                                قوله : "بين حرتين " تثنية حرة -بفتح الحاء المهملة- وهي الأرض ذات الحجارة السود .

                                                قوله : "عذق " بفتح العين وسكون الذال : النخلة .

                                                قوله : "العرواء " بضم العين المهملة وفتح الراء وهي الحمى النافض ، والبرحاء : الحمى الصالب ، والرحضاء : الحمى الذي يأخذ بالعرق ، والمطواء : الذي يأخذ بالتميل ، والثوباء : الذي يأخذ بالتثاؤب .

                                                قوله : "بالفقير " بالفاء ثم القاف ، قال ابن الأثير : فقير النخلة حفرة تحفر للفسيلة إذا حولت لتغرس فيها .

                                                "والودية " : بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء آخر الحروف : إذا خرجت النخلة من النواة فهي غريسة ، ثم يقال لها : ودية ثم فسيلة ثم إشاءة .

                                                قوله : "ففقر لها " أي : حفر لها ، وكذا معنى قوله : "ففقرت لها " أي : حفرت لها ، ومادة هذه الكلمة بتقديم الفاء على القاف كما قلنا .




                                                الخدمات العلمية