الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2579 2580 2581 2582 2583 2584 2585 2586 2587 2588 2589 2590 2591 ص: فذهب قوم إلى أن الكلام في الصلاة من المأمومين لإمامهم إذا كان على وجه إصلاح الصلاة لا يقطع الصلاة ، وأن الكلام من الإمام ومن المأمومين فيها على السهو لا يقطع الصلاة ، واحتجوا في مذهبهم في كلام المأموم للإمام لما قد تركه من الصلاة بكلام ذي اليدين لرسول الله - عليه السلام -[في هذه الآثار التي رويناها ، وفي مذهبهم في الكلام السهو على أن لا يقطع الصلاة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، - لذي اليدين : "لم تقصر الصلاة" في هذه الآثار التي رويناها ، وفي مذهبهم في الكلام على السهو أنه لا يقطع الصلاة ، فقول رسول الله - عليه السلام - لذي اليدين : "لم تقصر ولم أنس " وهو يرى أنه ليس في الصلاة ، قالوا : فلما بنى رسول الله - عليه السلام - على ما قد صلى ، ولم يكن ذلك قاطعا عليه ، ولا على ذي اليدين ؟ الصلاة ; ثبت بذلك أن الكلام لإصلاح الصلاة مباح في الصلاة ، وأن الكلام في الصلاة على السهو غير قاطع الصلاة . . .

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بالقوم هؤلاء : ربيعة ومالكا والشافعي وأحمد وإسحاق ; فإنهم قالوا : كلام القوم في الصلاة لإمامهم على وجه إصلاحها لا يفسد الصلاة ، وكذلك كلام الكل على وجه السهو لا يفسدها . [ ص: 29 ] وقال أبو عمر بن عبد البر : وذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الكلام والسلام ساهيا في الصلاة لا يفسدها ، كقول مالك وأصحابه سواء ، وإنما الخلاف بينهما أن مالكا يقول : لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها ، وهو قول ربيعة وابن القاسم إلا ما روي عنه في المنفرد ، وهو قول أحمد بن حنبل ، ذكر الأثرم عنه أنه قال : ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لم يفسد عليه صلاته ، فإن تكلم لغير ذلك فسدت عليه ، وذكر الخرقي عنه : أن مذهبه فيمن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته إلا الإمام خاصة ; فإنه إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل صلاته .

                                                وقال الشافعي وأصحابه ومن تابعهم من أصحاب مالك وغيرهم : إن من تعمد الكلام وهو يعلم أنه لم تتم الصلاة وأنه فيها أفسد صلاته ، فإن تكلم ناسيا أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة ; لأنه قد كملها عند نفسه لا تبطل ، وأجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنه في الصلاة ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنه يفسد الصلاة ، إلا ما روي عن الأوزاعي أنه من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك أن الأمور الجسام لم تفسد بذلك صلاته ، وهو قول ضعيف في النظر . انتهى .

                                                وقال القاضي عياض : المشهور عن مالك وأصحابه الأخذ بحديث ذي اليدين ، وروي عنه ترك الأخذ به ، وأنه كان يستحب أن يعيد ولا يبني ، قال : وإنما تكلم النبي - عليه السلام - وأصحابه ; لأنهم ظنوا أن الصلاة قصرت ، ولا يجوز ذلك لأحدنا اليوم ، ورواه عنه أبو قرة ، وقاله ابن نافع وابن وهب وابن كنانة وقال الحارث بن مسكين : أصحاب مالك كلهم على خلاف ما قال ابن القاسم عنه ، وقالوا : كان هذا أول الإسلام ، وأما الآن فمن تكلم فيها أعادها ، وقد اختلف قول مالك وأصحابه في التعمد بالكلام لإصلاح الصلاة من الإمام والمأموم ، ومنع ذلك بالجملة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأهل الظاهر ، وجعلوه مفسدا للصلاة إلا أن أحمد أباح ذلك للإمام وحده ، وسوى أبو حنيفة بين العمد والسهو انتهى . [ ص: 30 ] وقال ابن قدامة في "المغني " : قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدا ، وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة ، فأما الكلام لغير ذلك فينقسم خمسة أقسام .

                                                أحدها : أن يتكلم جاهلا بتحريم الكلام في الصلاة ، فقال القاضي في "الجامع " : لا أعرف عن أحد نصا في ذلك ، ويحتمل أن لا تبطل صلاته ; لأن الكلام كان مباحا في الصلاة بدليل حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ، فلا يثبت حكم النسخ في حق من لم يعلمه بخلاف الناسي ، فإن الحكم قد ثبت في حقه .

                                                القسم الثاني : أن يتكلم ناسيا وذلك نوعان :

                                                أحدهما : أن ينسى أنه في الصلاة ، ففيه روايتان :

                                                إحداهما : لا تبطل الصلاة وهو قول مالك والشافعي ; لأنه - عليه السلام - تكلم في حديث ذي اليدين .

                                                والثانية : تفسد صلاته ، وهو قول النخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي ، لعموم أحاديث المنع من الكلام .

                                                النوع الثاني : أن يظن أن صلاته قد تمت فيتكلم ، فهذا إن كان سلاما لم تبطل صلاته -رواية واحدة - لأنه - عليه السلام - وأصحابه فعلوه وبنوا على صلاتهم ، وإن لم يكن سلاما فالمنصوص عن أحمد في رواية جماعة من أصحابه ، أنه إذا تكلم بشيء مما تكمل به الصلاة أو شيء من شأن الصلاة مثل كلام النبي - عليه السلام - ذا اليدين لم تفسد صلاة ، وإن تكلم في شيء من غير أمر الصلاة كقوله : يا غلام اسقني ماء ، فسدت صلاته ، وفيه رواية ثانية : أن الصلاة تفسد بكل حال ، وهذا مذهب أصحاب الرأي ، وفيه رواية ثالثة : أن الصلاة لا تفسد بالكلام في تلك الحال بحال سواء كان من شأن الصلاة أو لم يكن ، إماما كان أو مأموما ، وهذا مذهب مالك والشافعي ; لأنه نوع من النسيان ، فأشبه التكلم جاهلا ، وتخرج فيه رواية رابعة : وهو أن المتكلم إن كان إماما تكلم لمصلحة الصلاة لم تفسد صلاته ، وإن تكلم غيره فسدت صلاته . [ ص: 31 ] القسم الثالث : أن يتكلم مغلوبا على الكلام ، وهو ثلاثة أنواع :

                                                أحدها : أن تخرج الحروف من فيه من غير اختيار مثل أن يتثاءب فيقول : هاه . أو يتنفس : فيقول : آه . أو يسعل فنطق في السعلة بحرفين وما أشبه هذا أو يغلط في القراءة فيعدل إلى كلمة من غير القرآن ، أو يجيئه البكاء فيبكي ، ولا يقدر على رده ، فهذا لا يفسد صلاته ، نص عليه أحمد ، وقال القاضي فيمن تثاءب فقال : آه آه ، تفسد صلاته .

                                                النوع الثاني : أن ينام فيتكلم ، فقد توقف أحمد عن الجواب فيه وينبغي أن لا تبطل صلاته . النوع الثالث : أن يكره على الكلام ، فيحتمل أن يخرج على كلام الناسي والصحيح إن شاء الله أن هذا تفسد صلاته .

                                                القسم الرابع : أن يتكلم بكلام واجب مثل أن يخشى على ضرير أو صبي الوقوع في هلكة ، أو يرى حية ونحوها تقصد غافلا ، أو نائما ، أو يرى نارا يخاف أن تشتعل في شيء ، ونحو هذا ، ولا يمكن التنبيه بالتسبيح ، فقال أصحابنا : تبطل الصلاة بهذا ، وهو قول بعض أصحاب الشافعي ، ويحتمل أن لا تبطل الصلاة ، وهو ظاهر قول أحمد ، وهذا ظاهر مذهب الشافعي .

                                                القسم الخامس : أن يتكلم لإصلاح الصلاة ، وجملته أن من سلم من نقص في صلاته يظن أنها قد تمت ، ثم تكلم ، ففيه ثلاث روايات :

                                                إحداهن : أن الصلاة لا تفسد إذا كان الكلام في شأن الصلاة ، مثل كلام النبي - عليه السلام - وأصحابه في حديث ذي اليدين .

                                                والثانية : تفسد صلاتهم ، وهو قول الخلال ومذهب أصحاب الرأي ; لعموم أحاديث النهي .

                                                والثالثة : أن صلاة الإمام لا تفسد ; لأن النبي - عليه السلام - كان إماما وبنى على صلاته ، وصلاة المأمومين الذين تكلموا تفسد ، فإنه لا يصح اقتداؤهم بأبي بكر وعمر [ ص: 32 ] - رضي الله عنهما - لأنهما تكلما مجيبين النبي - عليه السلام - ، وإجابته واجبة عليهما ; ولا بذي اليدين لأنه تكلم سائلا عن نقص الصلاة في وقت يمكن ذلك فيها وليس بموجود في زمننا ، وهذه الرواية اختيار الخرقي واختص هذا بالكلام في شأن الصلاة ، فأما من تكلم في صلب الصلاة من غير سلام ولا ظن تمام ، فإن صلاته تفسد ، إماما كان أو غيره ، لمصلحة الصلاة أو غيرها ، وذكر القاضي في ذلك الروايات الثلاث ويحتمله كلام الخرقي لعموم لفظه ، وهو مذهب الأوزاعي ، فإنه قال : لو أن رجلا قال للإمام وقد جهر بالقراءة في العصر : إنها العصر لم تفسد صلاته ، والله أعلم .

                                                قوله : "وإن الكلام " بالفتح عطف على قوله : "إلى أن الكلام " .

                                                قوله : "واحتجوا في مذهبهم " أي واحتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه .

                                                قوله : "لما قد تركه " أي لأجل ما قد تركه الإمام من الصلاة .

                                                قوله : "وفي مذهبهم " أي واحتج هؤلاء القوم أيضا في مذهبهم في الكلام على جهة السهو أنه لا يفسد الصلاة ، بقول رسول الله - عليه السلام - . . . . إلى آخره .

                                                قوله : "قالو " أي قال هؤلاء القوم .

                                                قوله : "ثبت " جواب لقوله "فلما بنى " فافهم .




                                                الخدمات العلمية