الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2845 2846 ص: وقد حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا أبو داود (ح).

                                                وحدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا وهب ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال عمر : - رضي الله عنه - : " كل ذلك قد كان خمس وأربع ، فأمر عمر الناس بأربع يعني في الصلاة على الجنازة " .

                                                حدثنا فهد ، قال : ثنا علي بن معبد ، قال : ثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد يعني ابن أبي أنيسة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : قبض رسول الله - عليه السلام - والناس مختلفون في التكبير على الجنازة ، لا تشاء أن تسمع رجلا [يقول] : سمعت رسول الله - عليه السلام - يكبر سبعا ، وآخر يقول : سمعت رسول الله - عليه السلام - يكبر خمسا ، وآخر يقول : سمعت رسول الله - عليه السلام - يكبر أربعا ألا سمعته ، فاختلفوا في ذلك ، فكانوا على ذلك حتى قبض أبو بكر - رضي الله عنه - ، فلما ولي عمر - رضي الله عنه - ورأى اختلاف الناس في ذلك شق ذلك عليه جدا ، فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول الله - عليه السلام - فقال : إنكم معاشر أصحاب رسول الله - عليه السلام - متى تختلفون على الناس يختلفون من [ ص: 349 ] بعدكم ، ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه ، فانظروا أمرا تجتمعون عليه ، فكأنما أيقظهم ، فقالوا : نعم ما رأيت يا أمير المؤمنين فأشر علينا ، فقال عمر - رضي الله عنه - : بل أشيروا علي ، فإنما أنا بشر مثلكم ، فتراجعوا الأمر بينهم ، فأجمعوا أمرهم على أن يجعلوا التكبير على الجنائز مثل التكبير في الأضحى والفطر أربع تكبيرات ، فأجمع أمرهم على ذلك " . .

                                                فهذا عمر - رضي الله عنه - قد رد الأمر في ذلك إلى أربع تكبيرات بمشورة أصحاب رسول الله - عليه السلام - بذلك عليه ، وهم حضروا من فعل رسول الله - عليه السلام - ما رواه حذيفة ، وزيد بن أرقم ، فكانوا ما فعلوا من ذلك عندهم هو أولى مما قد كانوا علموا ، فذلك نسخ لما قد كانوا علموا ; لأنهم مأمونون على ما قد فعلوا كما كانوا مأمونين على ما قد رووا ، وهكذا كما أجمعوا عليه بعد النبي - عليه السلام - في التوقيت على حد الخمر ، وترك بيع أمهات الأولاد فكان إجماعهم على ما قد أجمعوا عليه من ذلك حجة ، وإن كانوا قد فعلوا في عهد النبي - عليه السلام - خلافه ، فكذلك ما أجمعوا عليه من محدد التكبير بعد النبي - عليه السلام - في الصلاة على الجنازة ; فهو حجة وإن كانوا قد علموا من النبي - عليه السلام - خلافه ، وما فعلوا من ذلك واجتمعوا عليه بعد النبي - عليه السلام - فهو ناسخ لما قد كان فعله النبي - عليه السلام - .

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا الذي أخرجه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن التكبيرات على الجنازة لم تكن موقتة على عهد النبي - عليه السلام - ، ثم أشار بالذي أخرجه عن إبراهيم النخعي : أن الإجماع قد انعقد على الأربع في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .

                                                أما الأول فأخرجه من طريقين صحيحين :

                                                أحدهما : عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة بن عبد الله الكوفي الفقيه الأعمى ، عن سعيد بن المسيب ، والآخر عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير ، عن شعبة . . . إلى آخره . [ ص: 350 ] وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " : عن ابن فضيل ، عن العلاء ، عن عمرو بن مرة ، قال : قال عمر - رضي الله عنه - : "كل قد فعل فتعالوا نجتمع على أمر يأخذ به من بعدنا ، فكبروا على الجنازة أربعا " .

                                                فإن قلت : هل سمع سعيد بن المسيب عمر بن الخطاب .

                                                قلت : نعم ، وقد قال أبو طالب لأحمد بن حنبل : سعيد ، عن عمر حجة ؟ قال : هو عندنا حجة ، قد رأى عمر وسمع منه ، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر ، فمن يقبل ؟

                                                وأما الثاني : فأخرجه عن فهد بن سليمان ، عن علي بن معبد بن شداد العبدي الرقي نزيل مصر وثقه أبو حاتم ، عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقي ، روى له الجماعة ، عن زيد بن أبي أنيسة الجزري أبي أسامة الرهاوي روى له الجماعة ، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ثقة كبير ، عن إبراهيم النخعي .

                                                وأخرجه محمد بن الحسن في "آثاره " أنا أبو حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم : "أن الناس كانوا يصلون على الجنائز خمسا وستا وأربعا حتى قبض النبي - عليه السلام - ، ثم كبروا بعد ذلك في ولاية أبي بكر - رضي الله عنه - حتى قبض أبو بكر ، ثم ولي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ففعلوا ذلك في ولايته ، فلما رأى عمر بن الخطاب ، قال : إنكم معشر أصحاب محمد متى تختلفون يختلف من بعدكم ، والناس حديث عهد بالجاهلية ، فأجمعوا على شيء يجتمع به عليه من بعدكم ، فأجمع رأي أصحاب محمد أن ينظروا آخر جنازة كبر عليها رسول الله - عليه السلام - حتى قبض ، فيأخذون به ، فيرفضون ما سوى ذلك ، فنظروا فوجدوا آخر جنازة كبر عليها رسول الله - عليه السلام - أربعا " . قال محمد : وبه نأخذ ، وهو قول أبي حنيفة .

                                                وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه " : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عامر [ ص: 351 ] عن أبي وائل قال : "جمع عمر - رضي الله عنه - الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة ، فقال بعضهم : كبر رسول الله - عليه السلام - خمسا ، وقال بعضهم : كبر سبعا ، وقال بعضهم : كبر أربعا ، قال : فجمعهم على أربع تكبيرات كأطول الصلاة " .

                                                قوله : "إلا سمعته " متعلق بقوله : "لا تشاء أن تسمع " .

                                                قوله : "فاختلفوا في ذلك " أي في عدد التكبير على الجنازة ، فكانوا على هذا الحكم حتى قبض أبو بكر - رضي الله عنه - .

                                                قوله : "شق ذلك " جواب لقوله : "فلما ولي عمر - رضي الله عنه - " .

                                                قوله : "إنكم معاشر أصحاب رسول الله - عليه السلام - " المعاشر جمع معشر ، قال الجوهري : المعاشر جماعات الناس ، والواحد معشر ، من العشير : القبيلة ، والمعاشر : الزوج وأصل ذلك كله من العشرة وهي الصحبة .

                                                وقوله : "معاشر " منصوب بحرف نداء محذوف ، وخبر "إن " .

                                                قوله : "متى تختلفون " والتقدير : إنكم يا معاشر أصحاب رسول الله - عليه السلام - ، والجملة الندائية معترضة بين اسم إن وخبرها .

                                                قوله : "نعم ما رأيت " أي نعم الرأي الذي رأيت .

                                                قوله : "مثل التكبير في الأضحى والفطر " أي مثل عدد التكبير في عيد الأضحى وعيد الفطر أربع تكبيرات ، وهذا التشبيه إنما يتمشى على قول أصحابنا ; لأن عندهم التكبيرات الزائدة في كل واحد من العيدين أربع تكبيرات في الركعة الأولى بعد القراءة ، وبتكبيرة الإحرام تكون خمس تكبيرات ، وأما في الركعة الثانية فالزوائد ثلاث تكبيرات بعد القراءة وبتكبيرة الركوع تكون أربع تكبيرات ، وروى أبو عائشة جليس لأبي هريرة : "أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى وحذيفة كيف كان رسول الله - عليه السلام - يكبر في الأضحى والفطر ؟ فقال أبو موسى : كان يكبر أربعا تكبيرة على الجنازة ، فقال حذيفة : صدق " . [ ص: 352 ] وقال أحمد بن حنبل : يكبر في الركعة الأولى سبعا مع تكبيرة الإحرام ولا يعتد بتكبيرة الركوع ; لأن بينهما قراءة ، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات ولا يعتد بتكبيرة النهوض ، ثم يقرأ في الثانية ، ثم يكبر ويركع .

                                                وروي ذلك عن فقهاء المدينة السبعة ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، ومالك ، والمزني .

                                                وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن عباس وابن عمر ويحيى الأنصاري قالوا : يكبر في الأولى سبعا ، وفي الثانية خمسا ، وبه قال الأوزاعي والشافعي وإسحاق ; إلا أنهم قالوا : يكبر سبعا في الأولى سوى تكبيرة الافتتاح .

                                                وروي عن ابن عباس وأنس والمغيرة بن شعبة وسعيد بن المسيب والنخعي : يكبر سبعا سبعا .

                                                وفي "الأحكام " لابن بزيزة : اختلف العلماء في تكبير العيد على نحو اثني عشر قولا .

                                                قوله : "فأجمع أمرهم على ذلك " على صيغة المجهول أي على أن التكبير في الجنازة أربع .

                                                قوله : "بمشورة " بفتح الميم وضم الشين وجاء بسكون الشين أيضا ، وكلاهما بمعنى الشورى ، من شاورته في الأمر واستشرته ، وأصله من الشور وهو عرض الشيء وإظهاره ، ومنه يقال للجمال والحسن : الشورة والشارة ، وفي الحديث : "أن رجلا أتاه وعليه شارة حسنة ، أي هيئة وألفها مقلوبة من الواو ، والشوار بالفتح متاع البيت .

                                                قوله : "وهم قد حضروا " أي والحال أن الصحابة قد حضروا من فعل رسول الله - عليه السلام - ما رواه حذيفة بن اليمان من تكبيره - عليه السلام - على الجنازة خمسا ، وما رواه زيد بن أرقم كذلك ، وقد مر حديثهما في أول الباب . [ ص: 353 ] قوله : "فذلك نسخ لما قد كانوا علموا " فإن قيل : كيف يثبت النسخ بالإجماع ؟ لأن الإجماع لا يكون إلا بعد النبي - عليه السلام - وآوان النسخ حياة النبي - عليه السلام - للاتفاق على أن لا نسخ بعده .

                                                قلت : قد جوز ذلك بعض مشايخنا بطريق أن الإجماع موجب علم اليقين كالنص ، فيجوز أن يثبت النسخ به ، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور ، فإذا كان يجوز النسخ بالخبر المشهور ، فجوازه بالإجماع أولى على أن ذلك الإجماع بينهم إنما كان على ما استقر عليه آخر أمر النبي - عليه السلام - الذي قد رفع كل ما كان قبله مما يخالفه ، فصار الإجماع مظهرا لما قد كان في حياة النبي - عليه السلام - فافهم .

                                                حتى قال بعضهم : إن حديث النجاشي هو الناسخ ; لأنه مخرج في "الصحيح " من رواية أبي هريرة ، قالوا : وأبو هريرة متأخر الإسلام ، وموت النجاشي كان بعد إسلام أبي هريرة .

                                                فإن قيل : إن كان في حديث أبي هريرة ما يدل على التأخير فليس في تلك الأحاديث المنسوخة ما يدل على التقديم ، فليس أحدهما أولى بالتأخير من الآخر .

                                                قلت : قد ورد التصريح بالتأخير من رواية ابن عمر وابن عباس وابن أبي أوفى وجابر - رضي الله عنهم - .

                                                قوله : "وهذا كما أجمعوا عليهم " أي هذا الإجماع على أن تكبيرات الجنازة أربع بعد النبي - عليه السلام - كالذي أجمعوا عليه بعده - عليه السلام - في التوقيت على حد الخمر ، وذلك لأنه لم يكن في زمن النبي - عليه السلام - حد موقت في الخمر ، ولا في زمن أبي بكر - رضي الله عنه - ، ولا في صدر من خلافة عمر بن الخطاب - عليه السلام - ، وإنما كانوا يقومون إلى الشارب بأيديهم ونعالهم ، فلما رأى عمر - رضي الله عنه - أنهم لا يمتنعون عن ذلك جلد أربعين إلى أن عتوا وبغوا فجلدهم ثمانين ، فاستقر الأمر عليه . [ ص: 354 ] والدليل على ذلك : ما رواه البخاري : عن السائب بن يزيد قال : "كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله - عليه السلام - وإمرة أبي بكر - رضي الله عنه - وصدرا من خلافة عمر - رضي الله عنه - فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى إذا كان آخر إمرة عمر بن الخطاب فجلد أربعين ، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين " .

                                                وروى البخاري ، ومسلم بإسنادهما : عن أنس - رضي الله عنه - : "أن النبي - عليه السلام - ضرب في الخمر بالجريد والنعال ، وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر استشار الناس ، فقال : عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون ، فأمر به عمر - رضي الله عنه - " .

                                                وأخرج أبو داود : عن عبد الرحمن بن أزهر : "أن رسول الله - عليه السلام - أتي بشارب خمر وهو بحنين فحثى في وجهه التراب ، ثم أمر أصحابه فضربوه بنعالهم وما كان في أيديهم ، حتى قال لهم ; ارفعوا ، ثم جلد أبو بكر في الخمر أربعين ، ثم جلد عمر - رضي الله عنه - صدرا من إمارته أربعين ، ثم جلد ثمانين في آخر خلافته ، وجلد عثمان الحدين كليهما ثمانين وأربعين ، ثم أثبت معاوية الحد ثمانين " .

                                                قوله : "وترك بيع أمهات الأولاد " يعني كما أجمعوا على ذلك بعد النبي - عليه السلام - مع أنهم كانوا يبيعونها في زمن النبي - عليه السلام - ، والدليل عليه قول جابر - رضي الله عنه - : "كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله - عليه السلام - " .

                                                وقد روي عن أبي سعيد الخدري مثل ذلك أيضا ، ولكن أجمعت الصحابة بعد النبي - عليه السلام - على المنع من بيعهن ، وسند الإجماع في ذلك : ما روي : "أن رسول الله - عليه السلام - قال في مارية حين ولدت إبراهيم : أعتقها ولدها . [ ص: 355 ] فإن قيل : كيف يكون هذا إجماعا وعلي - رضي الله عنه - كان يبيع أمهات الأولاد ، ولهذا تعلقت به طائفة منهم : داود اتباعا لعلي - رضي الله عنه - وحكي ذلك أيضا عن الشافعي ، فإنه قال في بعض كتبه بإجازة بيعهن .

                                                قلت : قد اختلف في ذلك عن علي - رضي الله عنه - اختلافا كثيرا وأصح شيء عنه في ذلك ما ذكره الحلواني قال : ثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا وهيب ، قال : ثنا عطاء بن السائب ، قال : سمعت عبيدة يقول : "كان علي - رضي الله عنه - يبيع أمهات الأولاد في الدين " . وقد صح عن عمر في جماعة من الصحابة المنع من بيعهن ، والشافعي أيضا قطع في مواضع كثيرة من كتبه بأنه لا يجوز بيعهن ، وعلى ذلك عامة أصحابه ، والقول بذلك شاذ لا يلتفت إليه .




                                                الخدمات العلمية