الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2988 2989 2990 2991 2992 2993 2994 2995 2996 ص: وقد روي عن النبي - عليه السلام - فيما تصدق به على بريرة أنه أكل منه وقال : هو عليها صدقة ولنا هدية .

                                                حدثنا بذلك فهد ، قال : ثنا محمد بن سعيد ، قال : ثنا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : " دخل علي النبي - عليه السلام - وفي البيت رجل شاة معلقة ، فقال : ما هذه ؟ فقلت : تصدق به على بريرة فأهدته لنا ، فقال : هو عليها صدقة وهو لنا هدية ، ثم أمر بها فسويت " .

                                                حدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن ربيعة بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " دخل رسول الله - عليه السلام - والبرمة تفور بلحم ، فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت ، فقال رسول الله - عليه السلام - : ألم أر برمة فيها لحم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، ولكن ذاك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة . فقال رسول الله - عليه السلام - : هو صدقة عليها وهو لنا هدية " .

                                                حدثنا علي بن عبد الرحمن ، قال : ثنا عبد الله بن مسلمة ، قال : ثنا سليمان بن بلال ، عن ربيعة . . . فذكر بإسناده مثله . [ ص: 537 ] حدثنا علي ، قال : ثنا عفان ، قال : ثنا همام ، قال : ثنا قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : " تصدق على بريرة بصدقة فأهدت منها لعائشة ، فذكرت ذلك للنبي - عليه السلام - فقال : هو لنا هدية ولها صدقة " .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا الوهبي ، قال : ثنا ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد بن السباق ، عن جويرية بنت الحارث ، قالت : " تصدق على مولاة لي بعضو من لحم ، فدخل علي النبي - عليه السلام - فقال : هل عندكم من عشاء ؟ فقلت : يا رسول الله مولاتي فلانة تصدق عليها بعضو من لحم فأهدته لي ، وأنت لا تأكل الصدقة ، فقال : قد بلغت محلها فهاتيه ، فأكل منها رسول الله - عليه السلام - " .

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : ثنا إبراهيم بن بشار ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا الزهري ، قال : أخبرني عبيد بن السباق ، عن جويرية ، مثله .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا محمد بن المنهال ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا خالد الحذاء ، عن حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية قالت : " دخل النبي - عليه السلام - على عائشة فقال : هل عندكم شيء ؟ قالت : لا ، إلا شيء بعثت به إلينا نسيبة من الشاة التي بعثت إليها من الصدقة ، فقال النبي - عليه السلام - : إنها قد بلغت محلها " .

                                                حدثنا روح بن الفرج ، قال : ثنا عمرو بن خالد ، قال : ثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن أبي معن يزيد بن يسار ، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج ، عن عبد الله بن وهب ، عن أم سلمة زوج النبي - عليه السلام - : " أن رسول الله - عليه السلام - قسم غنما من الصدقة فأرسل إلى زينب الثقفية بشاة منها ، فأهدت زينب من لحمها لنا ، فدخل علينا رسول الله - عليه السلام - فقال : هل عندكم شيء تطعمونا ؟ قلنا : لا والله يا رسول الله ، فقال : ألم أر لحما آنفا أدخل عليكم ؟ قلنا : يا رسول الله ذاك من الشاة التي أرسلت إلى زينب من الصدقة وأنت لا تأكل الصدقة ، فلم نحب أن نمسك ما لا تأكل منه ، فقال رسول الله - عليه السلام - : لو أدركته لأكلت منه " . [ ص: 538 ] فلما كان ما تصدق به على بريرة جائزا للنبي - عليه السلام - أكله ; لأنه إنما ملكه بالهدية ، جاز أيضا للهاشمي أن يجتعل من الصدقة ; لأنه إنما يملكه بعمله لا بالصدقة ، فهذا هو النظر ، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف في ذلك .

                                                التالي السابق


                                                ش: أخرج هذه الأحاديث إعضادا لما ذهب إليه الآخرون ، بيان ذلك : أن الفقير إذا تصدق عليه بصدقة فإنه يملكها ، ثم إنه إذا أهداها إلى غني جاز له أكلها ; لأنه يملكها بالهدية ، فبتغير الصفة كأن الذات قد تغيرت ، والدليل عليه : قضية بريرة ، فإنه لما تصدق بذلك اللحم عليها جوز النبي - عليه السلام - أكله ; لأنه ملكه بالهدية ، فكذلك الهاشمي إذا اجتعل شيئا من الصدقة تملكه بعمله لا من حيث الصدقة فيحل له حينئذ أكله .

                                                ثم إنه أخرج الأحاديث المذكورة عن عائشة وابن عباس وجويرية بنت الحارث وأم عطية وأم سلمة - رضي الله عنهم - .

                                                أما حديث عائشة فأخرجه من ثلاثة طرق صحاح :

                                                الأول : عن فهد بن سليمان ، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري ، عن شريك بن عبد الله النخعي ، عن منصور بن المعتمر ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن يزيد النخعي ، عن عائشة .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا آدم ، ثنا شعبة ، ثنا الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة : "أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق ، وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها ، فذكرت عائشة للنبي - عليه السلام - فقال لها النبي - عليه السلام - : اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق ، قالت : وأتي النبي - عليه السلام - بلحم فقلت : هذا ما تصدق به على بريرة ، قال : هو لها صدقة ولنا هدية " .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا عبيد الله بن معاذ ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا شعبة . [ ص: 539 ] وثنا محمد بن مثنى وابن بشار -واللفظ لابن مثنى- قالا : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة : "أتي النبي - عليه السلام - بلحم بقر ، فقيل : هذا مما تصدق به على بريرة ، فقال : هو لها صدقة ولنا هدية " .

                                                قوله : "معلقة " بالرفع ، صفة للرجل لا للشاة ، فافهم .

                                                قوله : "به " أي : برجل الشاة ، وإنما ذكر الضمير باعتبار المذكور ، وكذلك قوله : "أهدية " قوله : "هو " في الموضعين .

                                                الثاني : عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب . . . إلى آخره .

                                                ورجاله كلهم رجال الصحيح .

                                                وأخرجه مالك في "موطأه " ، والبخاري ، ومسلم في "صحيحيهما " .

                                                قوله : "والبرمة تفور " بضم الباء الموحدة وسكون الراء ، وهي القدرة من الحجر .

                                                و"تفور " من فارت القدرة : إذا غلت .

                                                وقال أبو عمر في شرح هذا الحديث : فيه إباحة أكل اللحم ردا على قول من كرهه من الصوفية والعباد ، وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال : "سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم " ، "وكان للحسن كل يوم لحم بنصف درهم " .

                                                وأما قول عمر - رضي الله عنه - : "إياكم واللحم ، فإن له ضراوة كضراوة الخمر " ففي حق من يواظب عليه ويمعن فيه ; لأن كثرته تؤدي إلى كثرة الشهوة المؤدية إلى الفساد .

                                                الثالث : عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة ، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود ، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي المدني ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة - رضي الله عنها - . [ ص: 540 ] وأخرجه أحمد في "مسنده " .

                                                وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضا بإسناد صحيح : عن علي بن عبد الرحمن ، عن عفان بن مسلم الصفار ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة بن دعامة ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده " بأتم منه : ثنا عفان ، نا همام ، نا قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : "أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا ، قال : كنت أراه يتبعها في سكك المدينة يعصر عينيه عليها ، قال : وقضى النبي - عليه السلام - فيها أربع قضيات : أن مواليها اشترطوا الولاء فقضى النبي - عليه السلام - الولاء لمن أعتق ، وخيرها فاختارت نفسها فأمرها أن تعتد ، قال : وتصدق عليها بصدقة فأهدت منها إلى عائشة فذكرت ذلك للنبي - عليه السلام - فقال : هو عليها صدقة وإلينا هدية " .

                                                وأما حديث جويرية بنت الحارث فأخرجه من طريقين صحيحين :

                                                الأول : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أحمد بن خالد بن موسى الكندي الوهبي الحمصي ، شيخ البخاري في غير "الصحيح " ، وثقه أبو زرعة وابن معين .

                                                عن محمد بن إسحاق المدني ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن عبيد بن السباق الثقفي المدني روى له الجماعة ، عن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية أم المؤمنين - رضي الله عنها - .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا قتيبة بن سعيد ، قال : ثنا ليث .

                                                وثنا محمد بن رمح ، قال : أنا الليث ، عن ابن شهاب ، أن عبيد بن السباق حدثه ، قال : إن جويرية زوج النبي - عليه السلام - أخبرته : "أن رسول الله - عليه السلام - دخل عليها [ ص: 541 ] فقال : هل من طعام ؟ قالت : لا والله يا رسول الله ما عندنا طعام إلا عظم من شاة أعطيته مولاتي من الصدقة ، فقال : قربيه قد بلغت محلها " .

                                                الثاني : عن محمد بن خزيمة ، عن إبراهيم بن بشار الرمادي ، عن سفيان بن عيينة ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن عبيد بن السباق ، عن جويرية .

                                                وأخرجه مسلم أيضا نحوه : عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم ، جميعا عن ابن عيينة ، عن الزهري بهذا الإسناد نحوه .

                                                وأما حديث أم عطية فأخرجه أيضا بإسناد صحيح : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي . . . إلى آخره .

                                                وأم عطية اسمها نسيبة بنت كعب -ويقال : بنت الحارث - الأنصارية الصحابية .

                                                والحديث أخرجه البخاري : ثنا علي بن عبد الله ، نا يزيد بن زريع ، نا خالد الحذاء ، عن حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية الأنصارية قالت : "دخل النبي - عليه السلام - على عائشة فقال : هل عندكم شيء ؟ فقالت : لا ، إلا شيء بعثت به نسيبة من الشاة التي بعثت بها من الصدقة ، فقال : إنها بلغت محلها " .

                                                وأخرجه مسلم نحوه .

                                                ونسيبة -بضم النون وفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- وهي أم عطية المذكورة .

                                                قوله : "قد بلغت محلها " يعني قد وقعت الصدقة في محلها ، ثم خرجت عن حكم الصدقة ; لأن المتصدق عليها قد ملكتها . [ ص: 542 ] وفيه بيان أن الأشياء المحرمة لعلل معلومة إذا ارتفعت عنها تلك العلل حلت ، وأن التحريم في الأشياء ليس لعينها .

                                                وأما حديث أم سلمة - رضي الله عنهما - فأخرجه عن روح بن الفرج القطان المصري ، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحنظلي أبي الحسن الجزري الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري ، عن عبد الله بن لهيعة المصري -فيه مقال- عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود القرشي الأسدي المدني ، يتيم عروة ، روى له الجماعة .

                                                عن أبي معن يزيد بن يسار [ . . .] عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج ، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .

                                                عن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي ، وهو عبد الله بن وهب الأصغر ، وأخوه عبد الله بن وهب الأكبر وثقه ابن حبان .

                                                عن أم سلمة أم المؤمنين واسمها هند بنت أبي أمية - رضي الله عنها - .




                                                الخدمات العلمية