الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2911 2912 ص: وقد جاءت الآثار متواترة عن رسول الله - عليه السلام - بما قد ذكرنا عنه في صلاته في نعليه ومن خلعه إياهما في وقت ما خلعهما للنجاسة التي كانت فيهما ، ومن إباحته للناس الصلاة في النعال ، فمن ذلك :

                                                ما قد حدثنا فهد ، قال : ثنا أبو غسان ، قال : ثنا زهير بن معاوية ، قال : ثنا أبو حمزة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : " خلع النبي - عليه السلام - نعليه [ ص: 439 ] وهو يصلي ، فخلع من خلفه ، فقال : ما حملكم على خلع نعالكم ؟ قالوا : رأيناك خلعت فخلعنا ، فقال : إن جبريل - عليه السلام - أخبرني أن في إحداهما قذرا ، فخلعتهما لذلك ، فلا تخلعوا نعالكم " .

                                                التالي السابق


                                                ش: لما ذكر فيما مضى وقد رأينا رسول الله - عليه السلام - صلى وعليه نعلاه . . . إلى آخره شرع يبين ذلك ، فقال : "وقد جاءت الآثار " أي الأحاديث "متواترة " أي متكاثرة "عن رسول الله - عليه السلام - بما قد ذكرنا عنه " أي عن النبي - عليه السلام - "من صلاته في نعليه . . . " إلى آخره .

                                                قوله : "فمن ذلك " أي فمن مجيء الآثار في ذلك ما قد حدثنا فهد بن سليمان ، قال : ثنا أبو غسان وهو مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري ، قال : ثنا زهير بن معاوية بن حديج روى له الجماعة ، قال : ثنا أبو حمزة -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- واسمه ميمون قاله البزار . وفي "التكميل " : ميمون أبو حمزة الأعور القصاب الكوفي الراعي ، قال : فيه مقال كثير ، فعن أحمد : ضعيف . وعنه : متروك .

                                                وهو يروي عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة بن قيس ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - .

                                                وأخرجه البزار في "مسنده " : ثنا يوسف بن موسى ، نا مالك بن إسماعيل ، ثنا زهير ، ثنا أبو حمزة ، قال : ثنا إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : "خلع رسول الله - عليه السلام - فخلع من خلفه ، فقال : ما حملكم على أن خلعتم نعالكم ؟ قالوا : رأيناك خلعت فخلعنا ، قال : إن جبريل - عليه السلام - أخبرني أن فيها قذرا فخلعتهما لذلك ، فلا تخلعوا نعالكم " . قال إبراهيم : "كانوا لا يخلعونها " ، قال : "ورأيت إبراهيم يصلي في نعليه " ، وهذا الحديث لا نعلمه يروى من حديث إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله إلا من حديث أبي حمزة عنه . [ ص: 440 ] ويستفاد منه أحكام :

                                                الأول : أنه يدل على إباحة الصلاة في النعلين ، فإذا كان تجوز الصلاة فيهما في المسجد ، فالمشي فيهما في القبور بالطريق الأولى .

                                                والثاني : ذكر الخطابي أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإن صلاته مجزية ولا إعادة عليه .

                                                قلت : قال أصحابنا : ولو رأى في ثوبه نجاسة ولم يدر متى أصابته لا يعيد صلاته حتى يتحقق ، بالإجماع ، وفي رواية : "يعيد صلاة يوم وليلة " .

                                                فإن قيل : هذا إذا علم بها بعد أن صلى ، وأما إذا علم بها وهو في الصلاة ، فلا خلاف فيه أنه تفسد صلاته وعليه أن يستأنفها ، فكيف يكون الجواب عن الحديث ; لأنه - عليه السلام - علم بالنجاسة وهو في الصلاة بإخبار جبريل - عليه السلام - ومع هذا لم يعدها ؟

                                                قلت : الجواب عن ذلك من وجهين :

                                                الأول : أن الحظر مع النجاسة نزل حينئذ .

                                                والثاني : يحتمل أنه كان أقل من قدر الدرهم ، وهذا لا يمشي إلا على مذهب الحنفية ، فافهم .

                                                الثالث : أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة وهو الذي لا يحتاج فيه إلى استعمال اليدين .

                                                الرابع : ذكر الخطابي أن الاقتداء برسول الله - عليه السلام - في أفعاله واجب كهو في أقواله ، وهو أنهم لما رأوا رسول الله - عليه السلام - خلع نعله خلعوا نعالهم ، وقد قال الشيخ جلال الدين في كتابه "المغني " : إن الأمر يتوقف على الصيغة عندنا خلافا للشافعي ; حتى لا تكون أفعال النبي - عليه السلام - موجبة لأنه يصح أن يقال : فلان يفعل كذا ويأمر بخلافه ، ولو كان الفعل أمرا لكان هذا تناقضا ، انتهى . [ ص: 441 ] قلت : كأنه بنى على هذا الاختلاف أن أفعال النبي - عليه السلام - غير موجبة .

                                                فإن قيل : يرد عليه أن النبي - عليه السلام - إذا فعل فعلا وواظب عليه من غير تركه مرة ; تكون واجبة مع أنه لم توجد فيه صيغة الأمر .

                                                قلت : يمكن أن يقال : المواظبة أمر زائد على نفس الفعل ، والنزاع ليس فيه ، ثم تحرير الخلاف في هذا الموضع : أنه إذا نقل إلينا فعل من أفعاله - عليه السلام - التي ليست بسهو مثل الزلات ، ولا طبع مثل الأكل والشرب ، ولا من خصائصه مثل وجوب التهجد والضحى ، ولا بيان لمجمل مثل المسح على الناصية ، هل يسعنا أن نقول فيه : أمر النبي - عليه السلام - بكذا ، وهل يجب علينا في ذلك اتباعه أم لا ؟ فعند مالك في رواية وبعض الشافعية يصح إطلاق الأمر عليه بطريق الحقيقة ، ويجب علينا الاتباع ، وعندنا : لا ، من وجوه ثلاثة :

                                                الأول : يلزم التناقض في قولنا : فلان يفعل كذا ويأمر بخلافه ، على تقدير كون الفعل أمرا والتناقض محال ، وكل تقدير يلزم منه المحال فهو محال .

                                                الثاني : لو كان الأمر حقيقة في الفعل لاطرد في كل فعل ; إذ الاطراد من غير مانع من أمارات الحقيقة ولكنه لم يطرد إذ لا يقال : الآكل أو الشارب آمرا فوجب أن لا يكون حقيقة فيه ; لأن كل مقصود من مقاصد الفعل كالماضي والحال والاستقبال مختصة بصيغ وضعت لها ، والمراد بالأمر من أعظم المقاصد لحصول الابتلاء به فاختصاصه بالعبارة أحق من غيره ، فإذا ثبت أصل الموضوع كان حقيقة ، ولا يكون حقيقة في غيره ، وإلا يلزم الاشتراك ، وهو خلاف الأصل ، ويؤيد هذا كله أنه - عليه السلام - لما خلع نعليه في الصلاة خلع الناس نعالهم ، فقال - عليه السلام - منكرا عليهم بعد فراغه من الصلاة : "ما حملكم على خلع نعالكم ؟ " فلو كان الفعل موجبا وأمرا لصار كأنه أمر بخلع النعال ثم أنكر عليهم وهو باطل ، وفيه نظر ; لأنه - عليه السلام - علل الإنكار في خلع النعال بأن جبريل - عليه السلام - قد أتاه وأخبره بأن في إحداهما قذرا ، فالإنكار وقع لأمر زائد على الاتباع وكيف يجوز الإنكار على نفس الاتباع وقد أمرنا [ ص: 442 ] بالاتباع والتأسي به لقوله تعالى : فاتبعوني ولقوله : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وفعله مما أتى به .

                                                قلت : الصحيح المختار عند فخر الإسلام وشمس الأئمة ما قاله أبو بكر الرازي الجصاص : أن ما علمنا من أفعال النبي - عليه السلام - واقعا على صفة من كونها واجبة أو مندوبة أو مباحة علينا اتباعه ، والاقتداء على تلك الصفة ، وما لم نعلم من أفعاله على أي صفة فعلها فلنا متابعته على أدنى منازل أفعاله وهي الإباحة ; لأن الاتباع والاقتداء برسول الله - عليه السلام - هو الأصل لما تلونا ، والله أعلم .



                                                الخدمات العلمية