فمن جعله اسما: ففي رفعه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ وفي الخبر حينئذ ثلاثة أوجه، أحدها: قوله "[أنهم] لا يرجعون" وفي ذلك حينئذ أربعة تأويلات، التأويل الأول: أن "لا" زائدة والمعنى: وممتنع على قرية قدرنا إهلاكها لكفرهم رجوعهم إلى الإيمان، إلى أن تقوم الساعة. وممن ذهب إلى زيادتها مستشهدا عليه بقوله تعالى: أبو عمرو "ما منعك ألا تسجد" يعني في أحد القولين. التأويل الثاني: أنها غير زائدة، وأن المعنى: أنهم غير راجعين عن معصيتهم وكفرهم. التأويل الثالث: أن الحرام يراد به الواجب. ويدل عليه قوله تعالى: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا" وترك الشرك واجب، ويدل عليه أيضا قول الخنساء:
[ ص: 199 ]
3359 - حرام علي لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على صخر
وأيضا فمن الاستعمال إطلاق أحد الضدين على الآخر.
ومن ثم قال الحسن لا يرجعون عن الشرك. وقال والسدي: إلى الدنيا. التأويل الرابع: قال قتادة: أبو مسلم ابن بحر: "حرام: ممتنع. وأنهم لا يرجعون: انتفاء الرجوع إلى الآخرة، فإذا امتنع الانتفاء وجب الرجوع. فالمعنى: أنه يجب رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة. ويكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث. وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد، وأنه يجزى على ذلك يوم القيامة". وقول قريب من هذا قال: "وممتنع على الكفرة المهلكين أنهم لا يرجعون إلى عذاب الله وأليم عقابه، فتكون "لا" على بابها، والحرام على بابه". ابن عطية
الوجه الثاني: أن الخبر محذوف تقديره: حرام توبتهم أو رجاء بعثهم، ويكون "أنهم لا يرجعون" علة لما تقدم من معنى الجملة، ولكن لك حينئذ في "لا" احتمالان، الاحتمال الأول: أن تكون زائدة. ولذلك قال في هذا الوجه بعد تقديره الخبر المتقدم: "إذا جعلت لا زائدة" قلت: والمعنى عنده: لأنهم يرجعون إلى الآخرة وجزائها. الاحتمال الثاني: أن تكون غير زائدة بمعنى: ممتنع توبتهم أو رجاء بعثهم; لأنهم لا يرجعون إلى الدنيا فيستدركوا فيها ما فاتهم من ذلك. أبو البقاء
[ ص: 200 ] الوجه الثالث: أن يكون هذا المبتدأ لا خبر له لفظا ولا تقديرا، وإنما رفع شيئا يقوم مقام خبره من باب "أقائم أخواك". قال "والجيد أن يكون "أنهم" فاعلا سد مسد الخبر"، قلت: وفي هذا نظر; لأن ذلك يشترط فيه أن يعتمد الوصف على نفي أو استفهام، وهنا فلم يعتمد المبتدأ على شيء من ذلك، اللهم إلا أن ينحو نحو أبو البقاء: فإنه لا يشترط ذلك. وقد قررت هذه المسألة في غير هذا الموضوع، والذي يظهر قول الأخفش، وحينئذ يكون في "لا" الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدمها، باختلاف معنيين: أي امتنع رجوعهم إلى الدنيا أو عن شركهم إذا قدرتها زائدة، أو امتنع عدم رجوعهم إلى عقاب الله في الآخرة إذا قدرتها غير زائدة. الأخفش،
الوجه الثاني: من وجهي رفع "حرام" أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدره بعضهم: الإقالة والتوبة حرام. وقدره "أي ذلك الذي ذكر من العمل الصالح حرام". وقال أبو البقاء: "وحرام على قرية أهلكناها ذاك، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور. ثم علل فقيل: إنهم لا يرجعون عن الكفر فكيف لا يمتنع ذلك؟ الزمخشري:
وقرأ العامة "أهلكناها" بنون العظمة. وقرأ أبو عبد الرحمن [ ص: 201 ] "أهلكتها" بتاء المتكلم. ومن قرأ "حرم" بفتح الحاء وكسر الراء وتنوين الميم، فهو في قراءته صفة على فعل نحو: حذر. وقال: وقتادة
3360 - وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب مالي ولا حرم
ومن قرأه فعلا ماضيا فهو في قراءته مسند لـ "أن" وما في حيزها. ولا يخفى الكلام في "لا" بالنسبة إلى الزيادة وعدمها فإن المعنى واضح مما تقدم وقرئ "إنهم" بالكسر على الاستئناف، وحينئذ فلا بد من تقدير مبتدأ يتم به الكلام، تقديره: ذلك العمل الصالح حرام. وتقدم تحرير ذلك.