الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (104) قوله : يوم نطوي : فيه أوجه، أحدها: أنه منصوب بـ "لا يحزنهم". والثاني: أنه منصوب بـ "تتلقاهم". الثالث أنه منصوب بإضمار اذكر أو أعني. الرابع: أنه بدل من العائد المقدر تقديره: توعدونه [637/ب] يوم نطوي فـ "يوم" بدل من الهاء. ذكره أبو البقاء. وفيه نظر; إذ يلزم من ذلك خلو الجملة الموصول بها من عائد على الموصول، ولذلك منعوا [ ص: 209 ] "جاء الذي مررت به أبي عبد الله" على أن يكون "أبي عبد الله" بدلا من الهاء لما ذكرت، وإن كان في المسألة خلاف. الخامس: أنه منصوب بالفزع، قاله الزمخشري، وفيه نظر; من حيث إنه أعمل المصدر الموصوف قبل أخذه معموله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم أن نافعا يقرأ "يحزن" بضم الياء إلا هنا، وأن شيخه ابن القعقاع يقرأ "يحزن" بالفتح إلا هنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة "نطوي" بنون العظمة وشيبة بن نصاح في آخرين "يطوي" بياء الغيبة، والفاعل هو الله تعالى، وقرأ أبو جعفر في آخرين "تطوى" بضم التاء من فوق وفتح الواو مبنيا للمفعول.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة "السجل" بكسر السين والجيم وتشديد اللام كالطمر. وقرأ أبو هريرة وصاحبه أبو زرعة بن عمرو بن جرير بضمهما، واللام [ ص: 210 ] مشددة أيضا بزنة "عتل". ونقل أبو البقاء تخفيفها في هذه القراءة أيضا، فتكون بزنة عنق، وأبو السمال وطلحة والأعمش بفتح السين. والحسن وعيسى بن عمر [بكسرها]. والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة، قال أبو عمرو: "قراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن".

                                                                                                                                                                                                                                      والسجل: الصحيفة مطلقا. وقيل: بل هو مخصوص بصحيفة العهد، وهي من المساجلة، والسجل: الدلو الملأى. وقال بعضهم: هو فارسي معرب فلا اشتقاق له.

                                                                                                                                                                                                                                      و "طي" مصدر مضاف للمفعول. والفاعل محذوف تقديره: كما يطوي الرجل الصحيفة ليكتب فيها، أو لما يكتبه فيها من المعاني، والفاعل يحذف مع المصدر باطراد. والكلام في الكاف معروف أعني كونها نعتا لمصدر مقدر أو حالا من ضميره. وأصل طي: طوي فأعل كنظائره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: السجل اسم ملك يطوي كتب أعمال بني آدم. وقيل: اسم رجل كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذين القولين يكون المصدر مضافا لفاعله. و "الكتاب" اسم للصحيفة المكتوب فيها. وقال أبو إسحاق: "السجل: الرجل بلسان الحبشة". وقال الزمخشري: كما [ ص: 211 ] يطوى الطومار للكتابة، أي: ليكتب فيه، أو لما يكتب فيه; لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب". فقدره الزمخشري من الفعل المبني للمفعول. وقد عرفت ما فيه من الخلاف.

                                                                                                                                                                                                                                      واللام في "للكتاب": إما مزيدة في المفعول إن قلنا إن المصدر مضاف لفاعله، وإما متعلقة بطي، وإما بمعنى "على". وهذا ينبغي أن لا يجوز لبعد معناه على كل قول. والقراءات المذكورة في "السجل" كلها لغات. وقرأ الأخوان وحفص "للكتب" جمعا، والباقون "للكتاب" مفردا، والرسم يحتملهما: فالإفراد يراد به الجنس، والجمع للدلالة على الاختلاف.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "كما بدأنا" في متعلق هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنها متعلقة بـ "نعيده"، و "ما" مصدرية و "بدأنا" صلتها، فهي وما في حيزها في محل جر بالكاف. و "أول خلق" مفعول "بدأنا"، والمعنى: نعيد أول خلق إعادة مثل بداءتنا له أي: كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود. وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال: "الكاف نعت لمصدر محذوف أي: نعيده عودا مثل بدئه" وفي قوله: "عود" نظر إذ الأحسن أن يقول: إعادة.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها تتعلق بفعل مضمر. قال الزمخشري: "ووجه آخر: [ ص: 212 ] وهو أن تنتصب الكاف بفعل مضمر يفسره "نعيده" و "ما" موصولة أي: نعيد مثل الذي بدأنا نعيده، و "أول خلق" ظرف لـ "بدأناه" أي: أول ما خلق، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "وفي تقديره تهيئة "بدأنا" لأن ينصب "أول خلق" على المفعولية وقطعه عنه، من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، وارتكاب إضمار بعيد مفسرا بـ "نعيده"، وهذه عجمة في كتاب الله. وأما قوله "ووجه آخر: وهو أن تنتصب الكاف بفعل مضمر يفسره "نعيده" فهو ضعيف جدا; لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف، وليس مذهب الجمهور، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفش. وكونها اسما عند البصريين مخصوص بالشعر". قلت: كل ما قدره فهو جار على القواعد المنضبطة، وقاده إلى ذلك المعنى الصحيح، فلا مؤاخذة عليه. يظهر ذلك بالتأمل لغير الفطن.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله: "ما" ففيها ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مصدرية. والثاني: أنها بمعنى الذي. وقد تقدم تقرير هذين. والثالث: أنها كافة للكاف عن العمل كما هي في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3366 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما الناس مجروم عليه وجارم



                                                                                                                                                                                                                                      فيمن رفع "الناس". قال الزمخشري: "أول خلق" مفعول "نعيد" [ ص: 213 ] الذي يفسره "نعيده"، والكاف مكفوفة بـ "ما". والمعنى: نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيها للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء. فإن قلت: فما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوله إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم".

                                                                                                                                                                                                                                      وأما "أول خلق" فتحصل فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه مفعول "بدأنا". والثاني: أنه ظرف لـ "بدأنا". والثالث: أنه منصوب على الحال من ضمير الموصول كما تقدم تقرير كل ذلك. والرابع: أنه حال من مفعول "نعيده" قاله أبو البقاء، والمعنى: مثل أول خلقه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما تنكير "خلق" فللدلالة على التفصيل. قاله الزمخشري: "فإن قلت: ما بال "خلق" منكرا؟ قلت: هو كقولك: "هو أول رجل جاءني" تريد: أول الرجال. ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا، وكذلك معنى "أول خلق" بمعنى: أول الخلائق; لأن الخلق مصدر لا يجمع".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وعدا" منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المتقدمة، فناصبه مضمر أي: وعدنا ذلك وعدا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية