الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (40) قوله : أو كظلمات : فيه أوجه، أحدها: أنه نسق على "كسراب"، على حذف مضاف واحد تقديره: أو كذي ظلمات. ودل على هذا المضاف قوله: "إذا أخرج يده لم يكد يراها" فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف وهو قول أبي علي. الثاني: أنه على حذف مضافين تقديرهما: أو كأعمال ذي ظلمات، فتقدر "ذي" ليصح عود الضمير إليه في قوله: "إذا أخرج يده" ، وتقدر "أعمال" ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة. الثالث: أنه لا حاجة [ ص: 414 ] إلى حذف البتة. والمعنى: أنه شبه أعمال الكفار في حيلولتها بين القلب وما يهتدي به بالظلمة. وأما الضميران في "أخرج يده" فيعودان على محذوف دل عليه المعنى أي: إذا أخرج يده من فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      و "أو" هنا للتنويع لا للشك. وقيل: بل هي للتخيير أي: شبهوا أعمالهم بهذا أو بهذا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ سفيان بن حسين "أو كظلمات" بفتح الواو، جعلها عاطفة دخلت عليها همزة الاستفهام الذي معناه التقرير. وقد تقدم ذلك في قوله: "أوأمن أهل القرى" .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "في بحر لجي": "في بحر" صفة لظلمات فيتعلق بمحذوف. واللجي منسوب إلى اللج وهو معظم البحر. كذا قال الزمخشري. وقال غيره: منسوب إلى اللجة بالتاء وهي أيضا معظمه، فاللجي هو العميق الكثير الماء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يغشاه موج" صفة أخرى لـ "بحر" هذا إذا أعدنا الضمير في "يغشاه" على "بحر" وهو الظاهر. وإن قدرنا مضافا محذوفا أي: أو كذي ظلمات - كما فعل بعضهم- كان الضمير في "يغشاه" عائدا عليه، وكانت الجملة حالا منه لتخصصه بالإضافة، أو صفة له.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من فوقه موج" يجوز أن تكون هذه جملة من مبتدأ وخبر، صفة لـ "موج" الأول. ويجوز أن يجعل الوصف الجار والمجرور فقط و "موج" فاعل به لاعتماده على الموصوف.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 415 ] قوله: "من فوقه سحاب" فيه الوجهان المذكوران قبله: من كون الجملة صفة لـ "موج" الثاني، أو الجار فقط.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ظلمات" قرأ العامة بالرفع وفيه وجهان، أجودهما: أن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره: هذه، أو تلك ظلمات. الثاني: أن يكون "ظلمات" مبتدأ. والجملة من قوله "بعضها فوق بعض" خبره. ذكره الحوفي. وفيه نظر لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة، اللهم إلا أن يقال: إنها موصوفة تقديرا، أي: ظلمات كثيرة متكاثفة كقولهم: "السمن منوان بدرهم".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير "ظلمات" بالجر إلا أن البزي روى عنه حينئذ حذف التنوين من "سحاب"، فقرأ البزي عنه "سحاب ظلمات" بإضافة "سحاب" لـ "ظلمات". وروى قنبل عنه التنوين في "سحاب" كالجماعة مع جره لـ "ظلمات". فأما رواية البزي فقال أبو البقاء: [666/ب] "جعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب"، وأما رواية قنبل فإنه جعل "ظلمات" بدلا من "ظلمات" الأولى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بعضها فوق بعض" جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع أو خبر على حسب القراءتين في "ظلمات" قبلها لأنها صفة لها. وجوز الحوفي على قراءة رفع "ظلمات" في "بعضها" أن يكون بدلا من "ظلمات". ورد عليه من حيث المعنى; إذ المعنى على الإخبار بأنها ظلمات، وأن بعض تلك الظلمات [ ص: 416 ] فوق بعض وصفا لها بالتراكم، لا أن المعنى: أن بعض تلك الظلمات فوق بعض، من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة. وفيه نظر; إذ لا فرق بين قولك "بعض الظلمات فوق بعض"، وبين قولك "الظلمات بعضها فوق بعض" وإن تخيل ذلك في بادئ الرأي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم الكلام في "كاد"، وأن بعضهم زعم أن نفيها إثبات وإثباتها نفي. وتقدمت أدلة ذلك في البقرة فأغنى عن إعادته. وقال الزمخشري هنا: "لم يكد يراها مبالغة في لم يرها أي: لم يقرب أن يراها فضلا أن يراها. ومنه قول ذي الرمة:


                                                                                                                                                                                                                                      3450 - إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لم يقرب من البراح فما باله يبرح". وقال أبو البقاء: "اختلف الناس في تأويل هذا الكلام. ومنشأ الاختلاف فيه: أن موضوع "كاد" إذا نفيت: وقوع الفعل. وأكثر المفسرين على أن المعنى: أنه لا يرى يده، فعلى هذا: في التقدير ثلاثة أوجه، أحدها: أن التقدير: لم يرها ولم يكد، ذكره جماعة من النحويين. وهذا خطأ; لأن قوله "لم يرها" جزم بنفي الرؤية وقوله: "لم يكد" إذا أخرجها على مقتضى الباب كان التقدير: ولم يكد يراها كما هو مصرح به في الآية. فإن أراد هذا القائل أنه لم يكد يراها، وأنه رآها بعد جهد، تناقض; لأنه نفى الرؤية ثم أثبتها، وإن كان معنى "لم يكد يراها": لم يرها البتة [ ص: 417 ] على خلاف الأكثر في هذا الباب، فينبغي أن يحمل عليه من غير أن يقدر لم يرها. والوجه الثاني: أن "كاد" زائدة وهو بعيد. والثالث: أن "كاد" أخرجت ههنا على معنى "قارب" والمعنى: لم يقارب رؤيتها، وإذا لم يقاربها باعدها. وعليه جاء قول ذي الرمة:

                                                                                                                                                                                                                                      50 - إذا غير النأي. . . . . . . . . . . . . .      . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      البيت. أي: لم يقارب البراح. ومن هنا حكي عن ذي الرمة أنه لما روجع في هذا البيت قال: لم أجد بدل "لم يكد". والمعنى الثاني: أنه رآها بعد جهد. والتشبيه على هذا صحيح لأنه مع شدة الظلمة إذا أحد نظره إلى يده وقربها من عينه رآها" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      أما الوجه الأول وهو ما ذكره أنه قول الأكثر: من أنه يكون إثباتا، فقد تقدم أنه غير صحيح وليس هو قول الأكثر، وإنما غرهم في ذلك آية البقرة. وما أنشدناه عن بعضهم لغزا وهو:


                                                                                                                                                                                                                                      3451 - أنحوي هذا العصر ما هي لفظة      . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      البيتين. وأما [ما] ذكره من زيادة "كاد" فهو قول أبي بكر وغيره، ولكنه مردود عندهم. وأما ما ذكره من المعنى الثاني: وهو أنه رآها بعد جهد فهو [ ص: 418 ] مذهب الفراء والمبرد. والعجب كيف يعدل عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشري وهو المبالغة في نفي الرؤية؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية ما معناه: "إذا كان الفعل بعد "كاد" منفيا دل على ثبوته نحو: كاد زيد لا يقوم، أو مثبتا دل على نفيه نحو: "كاد زيد يقوم" وإذا تقدم النفي على "كاد" احتمل أن يكون موجبا، وأن يكون منفيا. تقول: "المفلوج لا يكاد يسكن" فهذا يتضمن نفي السكون. وتقول: رجل منصرف لا يكاد يسكن، فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية