الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (49) قوله: تقاسموا : يجوز في "تقاسموا" أن يكون أمرا أي: قال بعضهم لبعض: احلفوا على كذا. ويجوز أن يكون فعلا ماضيا، وحينئذ يجوز أن يكون مفسرا لـ "قالوا"، كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: تقاسموا. ويجوز أن يكون حالا على إضمار "قد" أي: قالوا ذلك متقاسمين، وإليه ذهب الزمخشري، فإنه قال: "يحتمل أن يكون أمرا وخبرا في محل الحال بإضمار قد". قال الشيخ: "أما قوله: "وخبرا" فلا يصح لأن الخبر أحد قسمي الكلام; لأنه ينقسم إلى الخبر والإنشاء، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين". قلت: ولا أدري: عدم الصحة من ماذا؟ لأنه جعل الماضي خبرا لاحتماله الصدق والكذب مقابلا للأمر الذي لا يحتملهما. أما كون الكلام لا ينقسم إلا إلى خبر وإنشاء، وأن معانيه إذا حققت ترجع إليهما، فأي مدخل لهذا في الرد على أبي القاسم؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 624 ] ثم قال الشيخ: "والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد، فإذا أطلق عليها الخبر كان ذلك على تقدير: أنها لو لم تكن حالا لجاز أن تستعمل خبرا. وكذلك قولهم في الجملة الواقعة صلة: هي خبرية فهو مجاز والمعنى: أنها لو لم تكن صلة لجاز أن تستعمل خبرا وهذا فيه غموض". قلت: مسلم أن الجملة ما دامت حالا أو صلة لا يقال لها: خبرية، يعني أنها تستقل بإفادة الإسناد; لأنها سيقت مساق القيد في الحال ومساق جزء كلمة في الصلة، وكان ينبغي أن تذكر أيضا الجملة الواقعة صفة فإن الحكم فيها كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: "وأما إضمار "قد" فلا يحتاج إليه لكثرة وقوع الماضي حالا دون "قد"، كثرة ينبغي القياس عليها" قلت: الزمخشري مشى مع الجمهور; فإن مذهبهم أنه لا بد من "قد" ظاهرة أو مضمرة لتقربه من الحال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي ليلى "تقسموا" دون ألف مع تشديد السين. والتقاسم والتقسم كالتظاهر والتظهر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بالله" إن جعلت "تقاسموا" أمرا تعلق به الجار قولا واحدا، وإن جعلته ماضيا احتمل أن يتعلق به، ولا يكون داخلا تحت المقول، والمقول هو "لنبيتنه" إلى آخره. واحتمل أن يتعلق بمحذوف هو فعل القسم، وجوابه "لنبيتنه" فعلى هذا يكون مع ما بعده داخلا تحت المقول.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لنبيتنه" قرأ الأخوان بتاء الخطاب المضمومة وضم التاء، [ ص: 625 ] والباقون بنون المتكلم وفتح التاء. "ثم لنقولن" قرأه الأخوان بتاء الخطاب المفتوحة وضم اللام. والباقون بنون المتكلم وفتح اللام. ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخوين، إلا أنه بياء الغيبة في الفعلين. وحميد بن قيس كهذه القراءة في الأول وكقراءة غير الأخوين من السبعة في الثاني.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة الأخوين: فإن جعلنا "تقاسموا" فعل أمر فالخطاب واضح رجوعا بآخر الكلام إلى أوله. وإن جعلناه ماضيا فالخطاب على حكاية خطاب بعضهم لبعض بذلك. وأما قراءة بقية السبعة: فإن جعلناه ماضيا أو أمرا، فالأمر فيها واضح وهو حكاية أخبارهم عن أنفسهم. وأما قراءة الغيبة فيهما فظاهرة على أن يكون "تقاسموا" ماضيا رجوعا بآخر الكلام على أوله في الغيبة. وإن جعلناه أمرا كان "لنبيتنه" جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: كيف تقاسموا؟ فقيل: لنبيتنه. وأما غيبة الأول والتكلم في الثاني فتعليله مأخوذ مما تقدم في تعليل القراءتين.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري: وقرئ "لنبيتنه" بالياء والتاء والنون. فتقاسموا مع التاء والنون يصح فيه الوجهان" - يعني يصح في "تقاسموا" أن يكون أمرا، وأن يكون خبرا- قال: "ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبرا". قلت: وليس كذلك لما تقدم: من أنه يكون أمرا، وتكون الغيبة فيما بعده جوابا لسؤال مقدر. وقد تابع الزمخشري أبو البقاء على ذلك فقال: "تقاسموا" فيه وجهان، أحدهما: هو أمر أي: أمر بعضهم بذلك بعضا. فعلى هذا يجوز في "لنبيتنه" النون تقديره: قولوا: لنبيتنه، والتاء على خطاب الآمر المأمور. ولا يجوز الياء. والثاني: هو فعل ماض. وعلى هذا يجوز الأوجه الثلاثة -يعني بالأوجه-: النون [ ص: 626 ] والتاء والياء. قال: "وهو على هذا تفسير" أي: تقاسموا على كونه ماضيا: مفسر لنفس "قالوا". وقد سبقهما إلى ذلك مكي. وقد تقدم توجيه ما منعوه ولله الحمد والمنة. وتنزيل هذه الأوجه بعضها على بعض مما يصعب استخراجه من كلام القوم، وإنما رتبته من أقوال شتى. وتقدم الكلام في "مهلك أهله" في النمل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية