الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (63) قوله : دعاء الرسول : يجوز أن يكون هذا المصدر مضافا لمفعوله أي: دعاءكم الرسول بمعنى: أنكم لا تنادوه باسمه فتقولون: يا محمد، وبكنيته فتقولون: يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير: يا رسول الله يا نبي الله. وعلى هذا جماعة كثيرة، وأن يكون مضافا للفاعل. واختلفت عبارات الناس في هذا المعنى فقيل: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعض لبعض فتتباطؤون عنه، كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر، بل يجب عليكم المبادرة لأمره. واختاره أبو العباس، ويؤيده قوله: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره". وقيل: معناه لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم، وفقيركم غنيكم يسأله حاجة، فربما تجاب دعوته، وربما لا تجاب. وإن دعوات الرسول عليه السلام مسموعة مستجابة. . . في التخريجة الأخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن "نبيكم" بتقديم النون على الباء المكسورة [بعدها] ياء مشددة مخفوضة مكان "بينكم" الظرف في قراءة العامة. وفيها ثلاثة أوجه، أحدها: أنه بدل من الرسول. الثاني: أنه عطف بيان له لأن النبي [رسول]، بإضافته إلى المخاطبين صار أشهر من الرسول. الثالث: أنه نعت. لا يقال: إنه [ ص: 447 ] لا يجوز لأن هذا كما قررتم أعرف، والنعت لا يكون أعرف من المنعوت. بل إما أقل أو مساو; لأن الرسول صار علما بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم فقد تساويا تعريفا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "قد يعلم الله" قد تدل على التقليل مع المضارع إلا في أفعال الله تعالى، فتدل على التحقيق كهذه الآية. وقد ردها بعضهم إلى التقليل لكن إلى متعلق العلم، يعني أن الفاعلين لذلك قليل، فالتقليل ليس في العلم بل في متعلقه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لواذا" فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول; إذ التقدير: يتسللون منكم تسللا، أو يلاوذون لواذا. والثاني: أنه مصدر في موضع الحال أي ملاوذين. واللواذ: مصدر لاوذ. وإنما صحت الواو وإن انكسر ما قبلها، ولم تقلب ياء كما قلبت في قيام وصيام; لأنها صحت في الفعل نحو: لاوذ فلو أعلت في الفعل أعلت في المصدر نحو: القيام والصيام لقلبها ألفا في قام وصام. فأما مصدر لاذ بكذا يلوذ به [671/ب] فمعتل نحو: لاذ لياذا، مثل: صام صياما وقام قياما. واللواذ والملاوذة: التستر يقال: لاوذ فلان بكذا أي: استتر به. واللوذ: ما يطيف بالجبل. وقيل: اللواذ: الروغان من شيء إلى شيء في خفية. وفي التفسير: أن المنافقين كانوا يخرجون متسترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا. والمفاعلة: لأن كلا منهم يلوذ بصاحبه فالمشاركة موجودة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ يزيد بن قطيب "لواذا" بفتح اللام، وهي محتملة لوجهين [ ص: 448 ] أحدهما: أن تكون مصدر "لاذ" ثلاثيا فتكون مثل: طاف طوافا.

                                                                                                                                                                                                                                      وصلحت أن تكون مصدر لاوذ، إلا أنه فتحت الفاء إتباعا لفتحة العين وهو تعليل ضعيف يصلح لمثل هذه القراءة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فليحذر الذين" فيه وجهان، أشهرهما: - وهو الذي لا يعرف النحاة غيره- أن الموصول هو الفاعل و "أن تصيبهم" مفعوله أي: فليحذر المخالفون عن أمره إصابتهم فتنة. والثاني: أن فاعل "فليحذر" ضمير مستتر، والموصول مفعول به. وقد رد على هذا بوجوه منها: أن الإضمار على خلاف الأصل. وفيه نظر; لأن هذا الإضمار في قوة المنطوق به، فلا يقال: هو خلاف الأصل. ألا ترى أن نحو: قم ولتقم فاعله مضمر، ولا يقال في شيء منه: هو خلاف الأصل، وإنما الإضمار خلاف الأصل فيما كان حذفا نحو: "واسأل القرية".

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: أن هذا الضمير لا مرجع له أي: ليس له شيء يعود عليه فبطل أن يكون الفاعل ضميرا مستترا، وأجيب: بأن الذي يعود عليه الضمير هو الموصول الأول أي: فليحذر المتسللون المخالفين عن أمره فيكونون قد أمروا بالحذر منهم أي: أمروا باجتنابهم كما يؤمر باجتناب الفساق. وقد ردوا هذا بوجهين، أحدهما: أن الضمير مفرد، والذي يعود عليه جمع، ففاتت المطابقة التي هي شرط في تفسير الضمائر. الثاني: أن المتسللين هم المخالفون، فلو أمروا بالحذر عن الذين يخالفون لكانوا قد أمروا بالحذر من أنفسهم، وهو لا يجوز; لأنه لا يمكن أن يؤمروا بالحذر من أنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ويمكن أن يجاب عن الأول: بأن الضمير وإن كان مفردا فإنما عاد على [ ص: 449 ] جمع باعتبار أن المعنى: فليحذر هو. أي: من ذكر مثل ذلك. وحكى سيبويه "ضربني وضربت قومك" أي: ضربني من ثم ومن ذكر، وهي مسألة معروفة في النحو، أو يكون التقدير: فليحذر كل واحد من المتسللين. وعن الثاني: بأنه يجوز أن يؤمر الإنسان بالحذر عن نفسه مجازا. يعني أنه لا يطاوعها على شهواتها وما تسوله له من السوء. كأنه قيل: فليحذر المخالفون أنفسهم، فلا يطيعوها في ما تأمرهم به، ولهذا يقال: أمر نفسه ونهاها، وأمرته نفسه باعتبار المجاز.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: أنه يصير قوله: "أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" مفلتا ضائعا; لأن "يحذر" يتعدى لواحد، قد أخذه على زعمكم وهو "الذين يخالفون"، ولا يتعدى إلى اثنين حتى يقولوا: إن "أن تصيبهم فتنة" في محل مفعوله الثاني فبقي ضائعا. وفيه نظر; لأنه لا يسلم ضياعه; لأنه مفعول من أجله. واعترض على هذا: بأنه لم يستكمل شروط النصب لاختلاف الفاعل; لأن فاعل الحذر غير فاعل الإصابة وهو ضعيف; لأن حذف حرف الجر يطرد مع أن وأن. فنقول: مسلم شروط النصب غير موجودة، وهو مجرور باللام تقديرا، وإنما حذفت مع "أن" لطولها بالصلة.

                                                                                                                                                                                                                                      و "يخالفون" يتعدى بنفسه نحو: خالفت أمر زيد، و "إلى" نحو: خالفت إلى كذا، فكيف تعدى هذا بحرف المجاوزة؟ وفيه أوجه، أحدها: أنه ضمن معنى صد وأعرض أي: صد عن أمره وأعرض عنه مخالفا له. والثاني: قال ابن عطية: "معناه يقع خلافهم بعد [672/أ] أمره، كما تقول: كان المطر عن ريح [ ص: 450 ] كذا، وعن لما عدا الشيء". الثالث: أنها مزيدة أي: يخالفون أمره، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة، والزيادة خلاف الأصل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "يخلفون" بالتشديد، ومفعوله محذوف أي: يخلفون أنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية