قوله: "ترونها" في هذا الضمير قولان، أظهرهما: أنه ضمير الزلزلة لأنها المحدث عنها، ويؤيده أيضا قوله "تذهل كل مرضعة". والثاني: أنه ضمير الساعة. فعلى الأول يكون الذهول والوضع حقيقة لأنه في الدنيا، وعلى الثاني يكون على سبيل التعظيم والتهويل، وأنها بهذه الحيثية، إذ المراد بالساعة القيامة، وهو كقوله: "يوما يجعل الولدان شيبا".
قوله: "تذهل" في محل نصب على الحال من "ها" في "ترونها" فإن الرؤية هنا بصرية، وهذا إنما يجيء على غير الوجه الأول. وأما الوجه الأول [ ص: 223 ] وهو أن "تذهل" ناصب لـ "يوم ترونها" فلا محل للجملة من الإعراب لأنها مستأنفة، أو يكون محلها النصب على الحال من الزلزلة، أو من الضمير في "عظيم"، وإن كان مذكرا، لأنه هو الزلزلة في المعنى، أو من الساعة، وإن كانت مضافا إليها، لأنها: إما فاعل أو مفعول كما تقدم. وإذا جعلناها حالا فلا بد من ضمير محذوف تقديره: تذهل فيها.
وقرأ العامة "تذهل" بفتح التاء والهاء، من ذهل عن كذا يذهل. وقرأ ابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسر الهاء ونصب "كل" على المفعولية، من أذهله عن كذا يذهله عداه بالهمزة، والذهول: الاشتغال عن الشيء. وقيل: إذا كان مع دهشة. وقيل: إذا كان ذلك لطرآن شاغل من هم ومرض ونحوهما. وذهل بن شيبان أصله من هذا.
والمرضعة: من تلبست بالفعل، والمرضع: من شأنها أن ترضع كحائض، فإذا أريد التلبس قيل: حائضة.
قال "فإن قلت: لم قيل مرضعة دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، والمرضع التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به" والمعنى: إن من شدة الهول تذهل هذه عن ولدها فكيف بغيرها؟ وقال بعض الكوفيين: المرضعة تقال للأم، والمرضع تقال للمستأجرة غير الأم، وهذا مردود بقول [ ص: 224 ] الشاعر: الزمخشري:
3369 - كمرضعة أولاد أخرى وضيعت بني بطنها هذا الضلال عن القصد
فأطلق المرضعة بالتاء على غير الأم. وقول العرب مرضعة يرد أيضا قول الكوفيين: إن الصفات المختصة بالمؤنث لا يلحقها تاء التأنيث نحو: حائض وطالق. فالذي يقال: إن قصد النسب فالأمر على ما ذكروا، وإن قصد الدلالة على التلبس بالفعل وجبت التاء فيقال: حائضة وطالقة وطامثة.
قوله: "عما أرضعت" يجوز في "ما" أن تكون مصدرية أي: عن إرضاعها. ولا حاجة إلى تقدير حذف على هذا. ويجوز أن تكون بمعنى الذي فلا بد من حذف عائد أي: أرضعته. ويقويه تعدي "تضع" إلى مفعول دون مصدر. والحمل بالفتح: ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وبالكسر ما كان على ظهر.
قوله: "وترى الناس سكارى" العامة على فتح التاء من "ترى" على خطاب الواحد. وقرأ بضم التاء وكسر الراء، على أن الفاعل ضمير الزلزلة أو الساعة. وعلى هذه القراءة فلا بد من مفعول أول محذوف ليتم المعنى به أي: وتري الزلزلة أو الساعة الخلق الناس سكارى. ويؤيد هذا قراءة زيد بن علي أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك "ترى الناس سكارى". بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله، ونصب "الناس"، بنوه من المتعدي لثلاثة: فالأول قام مقام الفاعل، وهو ضمير الخطاب، و "الناس سكارى" هما الأول والثاني.
[ ص: 225 ] ويجوز أن يكون متعديا لاثنين فقط على معنى: وتري الزلزلة أو الساعة [639/ب] [الناس] قوما سكارى. فالناس هو الأول و "سكارى" هو الثاني.
وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره "وترى" كقراءة إلا أنهما رفعا "الناس" على أنه مفعول لم يسم فاعله. والتأنيث في الفعل على تأويلهم بالجماعة. أبي هريرة
وقرأ الأخوان "سكرى" "وما هم بسكرى" على وزن وصف المؤنثة بذلك. واختلف في ذلك: هل هو صيغة جمع على فعلى كمرضى وقتلى، أو صفة مفردة استغني بها في وصف الجماعة؟ خلاف مشهور تقدم الكلام عليه في قوله: "أسرى" . وظاهر كلام أنه جمع تكسير فإنه قال: "وقوم يقولون: سكرى، جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان، ثم جعلوا "روبى" مثل سكرى وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب. وقال سيبويه "ويصح أن يكون جمع "سكر" كزمن وزمنى. وقد حكي "رجل سكر" بمعنى سكران فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع ". قلت: ومن ورود "سكر" بمعنى سكران قوله: الفارسي:
[ ص: 226 ]
3370 - وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر
وكنت أمشي على رجلين معتدلا فصرت أمشي على أخرى من الشجر
ويروى البيت الأول "الشارب الثمل"، والأول أصح لدلالة البيت الثاني عليه.
وقرأ الباقون "سكارى" بضم السين. وقد تقدم لنا في البقرة خلاف: هل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع؟
وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك بفتح السين فيهما، وهو جمع تكسير، واحده سكران. قال وعيسى "وهي لغة أبو حاتم: تميم ".
وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة "سكرى" "بسكرى" بضم السين فيهما. فقال والأعمش "هي اسم مفرد كالبشرى. بهذا أفتاني ابن جني: وقال أبو علي". أبو الفضل: "فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث، لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة، أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد". وقال "هو غريب". قلت: ولا غرابة; فإن فعلى بضم الفاء كثر مجيئها في أوصاف المؤنثة نحو الربى والحبلى. الزمخشري:
[ ص: 227 ] وجوز فيه أن يكون محذوفا من سكارى. وكان من حق هذا القارئ أن يحرك الكاف بالفتح إبقاء لها على ما كانت عليه. وقد رواها بعضهم كذلك عن أبو البقاء وقرئ "ويرى الناس" بالياء من تحت ورفع "الناس". الحسن.
وقرأ في رواية "سكرى" بالفتح، "بسكرى" بالضم. وعن أبو زرعة كذلك، إلا أنه حذف الألف من الأول دون الثاني. ابن جبير
وإثبات السكر وعدمه بمعنى الحقيقة والمجاز أي: وترى الناس سكرى على التشبيه، وما هم بسكرى على التحقيق. قال "فإن قلت: لم قيل أولا: ترون، ثم قيل: "ترى" على الإفراد؟ قلت: لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة، فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم". الزمخشري: